نابليون بونابرت : حارب دول أوربا عشرين سنة ، و قد أمسكوه في سنة 1814 م ، و نفوه إلى ألبا ، و اجتمع نواب الدول في مؤتمر فيينا الشهير لإعادة تنظيم أوربا ، و في ختام أعمال المجمع نهض تاران ، نائب فرنسا ، و أخبر الحضور أن نابليون هرب من ألبا ، و عاد إلى فرنسا ، و انضم إليه الجنود و القواد ، و هو الآن إمبراطور فرنسا ثانية .
فبهت الحضور هنيهة ، ثم اندفعوا جميعهم في الضحك بصورة هستيرية ، ثم قرروا محاربته ، و في الحال عقدت محالفة بين إنكلترا و بروسيا و النمسا ، و انضم إليها غيرهم بعدئذ .
و في 13 آذار (( مارس )) وقعت الدول السبع : النمسا ، إسبانيا ، إنكلترا ، البرتغال ، روسيا و أسوج (السويد) قراراَ بتجريم نابليون .
ـــ الجيوش : وصل بلجيكا في شهر أيار (( مايو )) ثلاثة جيوش ، هي الإنكليزي و البروسي و الفرنسي . و كان قائد الأول دوق ولنجتن ، و الثاني المارشال بلوخر ، و الثالث نابليون .
وصل الأول بروكسل ، و الثاني ضفاف السوم و السمبر ، و الثالث حول مدينة ليل الفرنسية . و كان نابليون يرمي إلى فصل المتحالفين ، ثم اتخاذ خطة الدفاع أمام أحدهما و مهاجمة الآخر حتى يفنيه ، ثم الإجهاز على الثاني . و لم تكن جيوش روسيا و النمسا ، المنتظرة تشغل قلبه كثيراَ .
و كان مع نابليون خمسة فيالق :
الأول : بقيادة الكونت دارلون و موقعه حول ليل . الثاني : بقيادة الكونت رايل و موقعه في فلانسين إلى يمين الأول .
الثالث : بقيادة الكونت فاندام في مزيير .
الرابع : بقيادة الكونت جيرارد في نواحي متز .
الخامس : بقيادة الكونت لوبون لاون ، يضاف إلى ذلك فرق الخيالة بقيادة كروشي ، و الحرس الإمبراطوري القديم و الجديد.
و جاء نابليون بلجيكا في 14 حزيران (( يونيو )) ، و اجتمع بالمارشال ناي ، و سلمه قيادة جناحه الأيسر العامة ، تجاه الجيش الإنكليزي ، و احتفظ لنفسه بقيادة قلبه و جناحه الأيمن ، ضد البروسيين . و كان مع بلوخر من الجنود 83417 ، و مع ولنجتن 60,000 و مع نابليون أكثر من 106000 .
ـــ معركة كواتربراس :
بدأت الحرب بمهاجمة الجيش الفرنسي الجيش الإنكليزي في كواتربراس فتقدم المارشال ناي بسبعة عشر ألفاَ و ألفا خيال و تبعه كلرمن ــ دوك فالمي ــ بخمسة آلاف خيال ، فصار مجموع الجيش الفرنسي 23,000 . و نصب ناي مدفعيته على قمة جاميانكور المتحكمة في الميدان . و قابله السير توماس بكتن ، و ديوك برنسويك الذي قتل في المعركة .
و لما بدأ القتال انسحب الهولانديون من الصفوف الإنكليزية و استمر القتال كل النهار. و كان الفوز حليف الفرنسيين ، و لكنه في المساء تحول إلى جانب الإنكليز.
و انسحب الفرنسيون أمامهم إلى فرازن . فهاجم ولنجتن ليلاَ هضبة جاميانكور ، و انتزعها من أيدي الفرنسيين ، على أمل اتخاذ خطة الهجوم غداَ .
ــ معركة ليني : كان مع بلوخر 83417 جندياَ و 224 مدفعاَ ، عدا فيلق المارشال بولو ، القادم على الطريق و فيه 25000 ، فشبت الحرب بين بلوخر و بين نابليون و الذي أقوله أن البروسيين انسحبوا بنظام ، و التقوا بفيلق المارشال بولو ، فزادت قوتهم كثيراَ عما خسروا في معركة ليني .
و حسبهم نابليون مكسورين و منهزمين بدون نظام فتحول عنهم لمهاجمة ولنجتن . و كان بلوخر قد حل (( فوار )) فلما عرف ولنجتن أن بلوخر تأخر إلى فوار ، انسحب هو من ميدان كواتربراس إلى سان جوان قرب (( واترلو )) . و أرسل بلوخر يخبر أنه يحتاج إلى 25,000 مقاتل فيحارب نابليون غير هياب . و بناء على اعتقاد نابليون أن جيش بلوخر ضعف أرسل عليه كروشي و معه 32,000 ، و ساق بقية جيشه على ولنجتن لسحقه .
و لكن بلوخر ترك فيلقاَ معززاَ بقيادة ثلمن ، أمام كروشي ، و جاء ببقية الجيش لنجدة ولنجتن في واترلو ، و توقفت نتيجة الحرب على إدراك بلوخر ولنجتن قبل انكساره أمام نابليون . و كان المأمول أن يصل الساعة( 3 ب . ظ ) و لكن بسبب رداءة الطرقات الناشئة عن أمطار البارحة تأخر وصوله إلى الساعة الخامسة و النصف . فكان مصير أوربا معلقاَ على ثبات ولنجتن أمام هجمات نابليون هاتين الساعتين و النصف .
دوق ويلينغتون في واترلو رسمها روبرت أليكسندر هيلينغفرد
ـــ ميدان واترلو :
موقع الميدان جنوبي بروكسل عاصمة بلجيكا . و هو عبارة عن وهدة بين سلسلتي هضاب طوله نحو ثلاثة أميال ، و عرضه مختلف بين ضيق و عريض ، باختلاف المواقع . فحل الإنكليز سلسلة الهضاب الشمالية ، و الفرنسيون السلسلة الجنوبية ، و الوادي يفصل بينهما و مركز المدفعيات على قمم الجانبين متحكمة في الوادي تحتها. و كان في جانب الإنكليز قريتان و هما (( سنت جان )) و (( لايل )) تمر بهما الطريق من شارلروي إلى بروكسل . و إلى يمينهم واد و قرية (( مارك براين )) و إلى يسارهم قريتا (( بيلوت )) و (( سنت هياي )) ووراءهم غابة (( سوانيه )) و أمامهم في المنحدرات و السفوح ، موقعان جديران بالذكر :
الأول : أمام جناحهم الأيمن و هو مزرعة (( هوجومنت )) فيها بعض الأبنية و غابة أشجار .
الثاني : أمام قلبهم ، و هو مزرعة (( لاهاي سنت )) .
و قد عزز ولنجتن هذين الموقعين بالمدافع و الرجال . و إذا فرضنا أن الفرنسيين احتلوهما كانوا تحت رحمة مدافع الإنكليز الموضوعة فوقهما على التلال . أما الفرنسيون فكان في مؤخرتهم قرية (( بلانشوا )) .
ـــ كان مع دوق ولنجتن 49908 من المشاة و 12402 من الفرسان ، و 5645 من رجال المدفعية ، و المجموع 67655 ، معهم 156 مدفعاَ . من هذا المجموع 24,000 فقط من الإنكليز ، و كان مع نابليون 48950 من المشاة ، و 15765 من الفرسان و 7232 من رجال المدفعية ، فالمجموع 71947 معهم 224 مدفعاَ . و كلهم فرنسيون . عدا هؤلاء كان مع كروشي 32000 ، ضد البروسيين بقيادة ((ثلمن)) في فوار . و رتب دوق ولنجتن جيوشه في صفين ، صفاَ وراء صف ، يمتد الصف الأول على قمم سلسلة الهضاب ، الممتدة من الشرق إلى الغرب ، و الثاني وراءه ، ووراء الصفين كتائب فرسان احتياطية . و كان جناحه الأيمن بقيادة الجنرال كلنتن ، و القلب بقيادة السير كوك ، و فيه الحرس الملكي . و الجناح الأيسر بقيادة السير ثوماس بكتن . و مع الفرسان جيش برنسويك الاحتياطي . و كان في مرافقة ولنجتن البارون موفلنغ البروسي ، و اللورد أركز برج قائد الفرسان العام ، و اللورد هيل ، و برنس أورانج ، و الجنرال شاسيه .
و رتب الإمبراطور نابليون جنوده ، في صفين ــ ففي الصف الأمامي فيلقا دارلون و برايل ، الأول في الجناح الأيمن تجاه ثوماس بكتن ، و الثاني في الجناح الأيسر تجاه كلنتن . ووراء الجناح الأيمن ميلهود ، ووراء الثاني كلرمن . و بينهما الفيلق السادس بقيادة الجنرال لوباو . ووراء الخطين الجنود الاحتياطية ، و فيها الحرس الإمبراطوري ، و هو أقسام يطول بي شرحها . و كان في مرافقة الإمبراطور الجنرال سومير ، و المارشال ناي ، بصفة ملازمين .
و كان الجيشان متأهبين للقتال منذ الصباح الباكر ينتظران الإشارة . و لكنها تأخرت بسبب الوحل الناشئ من أمطار اليوم السابق . و في الحادية عشرة و الدقيقة الثلاثين بدأت المعركة التي عليها يتوقف مصير أوربا .
بدأ نابليون القتال بإرسال صف قوي للهجوم على (( هوجومنت )) بقيادة أخيه جيروم . و كان الفرنسيون يوالون الهجوم صفاَ بعد صف ، و في كل مرة كان الإنكليز يردونهم بالفشل . ظل القتال على هذه المزرعة كل النهار دون نتيجة و مدافع الجانبين تطلق عليها بالتناوب ، فحين يهجم الفرنسيون تمطرهم المدفعية الإنكليزية نيرانها ، وحين يطاردهم الإنكليز تمطرهم المدفعية الفرنسية النار تمهيداَ لهجوم ثانٍ . فتصور خسارة المهاجمين طيلة النهار . و لما بدأ القتال عمّ إطلاق المدافع خط القتال على طوله . و في الساعة الواحدة بعد الظهر أرسل الإمبراطور قوة كبيرة بقيادة المارشال ناي ، معها 74 مدفعاَ ، لمهاجمة قلب الجيش الإنكليزي و ميسرته . و كان في هذه القوة أربعة صفوف فيها 18000 من المشاة عدا الخيالة .
لوحة لويليام سادلر تمثل معركة واترلو
وكان غرض نابليون قطع صلات ولنجتن ببلوخر ، و الحيلولة دون انسحاب الإنكليز إلى بروكسل . و انتقى نابليون لهذا الهجوم زهرة جيوشه . فانحدروا عن هضابهم بنظام و أبهة ، واثقين بالفوز ، تحميهم المدافع المنصوبة على القمم وراءهم . و حالما انحدروا عن القمم فتحت المدافع الأربعة و السبعون أفواهها ، و صبت نيرانها على الأرض أمامهم ، لتمنع تعرض الإنكليز لهم . فذهب الصف الواحد إلى ميسرة الإنكليز ، و الثلاثة الأخرى إلى القلب ، و ما يلاصقه من الميسرة . و حينما دنت الصفوف الفرنسية انسحبت الجنود الهولاندية و البلجيكية أمامها . فسدّ مسدّها ، حالاَ ، فيلق بكتن الإنكليزي ، فلم ينشأ عن ذلك أمر ذو شأن .
و لكي يمكن الجنرال بكتن من صدّ هجوم المارشال ناي رتب جنوده في صفين ضيقين و طويلين جداَ ، و ساقهم في كرة على الهاجمين ، فصاح الإنكليز (( هوراه )) و انقضوا على الفرنسيين كالنسور ، و الجنرال بكتن في مقدمتهم ، فأصابه طلق أرداه قتيلاَ .
و ساعدت فرسان الجنرال بونسونبي مشاة الجنرال بكتن ، فردوا الفرنسيين مشوشين ، و أسروا منهم ألفين ، و غنموا علمين . و ظلت فرسان بونسونبي تطاردهم ، حتى وصلت المدفعية ، فعطلوها و قتلوا رجالها . و أصاب الصف الذي هاجم ميسرة الإنكليز ما أصاب الصفوف الثلاثة التي هاجمت القلب . و هذا أول فشل أصاب نابليون في هذه المعركة . فضعف جناحه الأيمن و حبطت خطته . و في نفس الوقت ما زالت (( هوجومنت )) ترد هجمات الفرنسيين المتوالية.
رأى نابليون ، بأسف شديد ، نخبة رجاله تتساقط أمامه ، سقوط أوراق الخريف . و راعه أن ظهرت في الأفق الشرقي طلائع بلوخر ، و لكنه أراد أن يشجع رجاله ، فقال لهم أنها طلائع كروشي قادمة لنجدتهم ، و لم يكن يجهل أنها جنود بلوخر . أما كروشي فكان مشتبكاَ في القتال أمام ثلمن ، على بعد 12 ميلاَ من نابليون ، و قد تمادى في مد صفه إلى الشرق ، حتى صار يتعذر عليه انجاده ، و قد فصلت بينهما جيوش بلوخر الجرارة و هددت ميمنة نابليون .
و إذا كان نابليون قد عجز عن مقاومة ولنجتن وحده فماذا تكون حاله و قد انضم إليه بلوخر بأكثر من خمسين ألفاَ ؟
فأدرك نابليون أن الوقت أثمن من أن يضاع ، إذ كانت جنود بلوخر قد ابتدأت تضغط على ميمنته . فأبرز وسيلتين للفوز على خصمه العنيد :
الوسيلة الأولى : أنه وجد فيلق لوباو ، المشاة ، لملاقاة بلوخر ، و صحبهم بكوكبات من الخيالة . فنجحوا في صد طلائع البروسيين ، و لكنهم لما وصلت جيوشهم الدافقة نكصوا أمامها . و اتخذ الحلفاء خطة حازمة ، ليس لمنع نابليون من الوصول إلى بروكسل ، بل أيضاَ لقطع خط الرجعة عليه ، إلى فرنسا ، و قرض جيشه كلياَ و نهائياَ . و لهذا السبب بذل نابليون أقصى جهده في الدفاع عن بلانشوا في مؤخرة جيوشه .الوسيلة الثانية : أنه زاد إطلاق المدافع على جبهة ولنجتن ، فأحل بها خسارة كبيرة ، و لكنه لم يسحقها ، و لا زحزحها عن مواقفها قيد شبر ، فجمع خيالته و أرسلها على قلب ولنجتن مرة ثانية و أرسل من ميسرته جنوداَ جديدة على هوجومنت و لاهاي سنت .
و حمي وطيس القتال ، ووالت كتائب نابليون هجماتها ، و رأى نابليون فرسانه تحصد حصداَ بنيران الإنكليز ، و كانت سواعد الفرنسيين أمام ميسرة الإنكليز ، و عجزت عن فصلهم عن بلوخر ، و في ذلك مصرع نابليون . و أخيراَ ، و قد دنا بلوخر ، استبسل الفرنسيون في هجومهم على ميسرة الإنكليز ، عند طريق شارلوي. و كان في تلك النقطة الفصائل الإنكليزية: 30 ، 33 ، 69 و 73 . فأحلوا بها خسارة عظيمة ، و لكن لم ينجم عن ذلك عمل فاصل .
و شدد نابليون هجماته على ميمنة ولنجتن فوق (( هوجومنت )) و زحزح الإنكليز عن مواقفهم .
فهتف الفرنسيون هتاف النصر . و لكن ولنجتن بادر حالاَ ، و نظم مشاته في شكل مربعات ، فتعذر على خيالة الفرنسيين اختراقها ، ثم أعادوا الكرة فصدوا أيضاَ . و كلما نكصوا مرة تلقفتهم مدافع الإنكليز . فأفنت هذه الهجمات الخائبة فرسان نابليون.
و لكن جناحه الأيمن أحرز بعض الفوز ، أمام ميسرة ولنجتن ، فانتزعوا (( لاهاي سنت )) من الإنكليز .
و لكن جيش بلوخر وصل بأجمعه ، و أدرك حقيقة الموقف ، و في الحال نظم جبهة ممتدة من الشمال إلى الجنوب ، شرقي ميمنة نابليون . فصار جيش الإمبراطور في شكل زاوية قائمة ، فضلع تجاه الإنكليز ، و ضلع تجاه البروسيين .
لما اشتد الضغط على ولنجتن ، قبيل وصول بلوخر ، أخذ يشدد سواعد رجاله ، و كان ينتقل من مكان إلى مكان ، و يلقي على مسامع الرجال عبارات حماسية ، و كان حين ترتخي أيديهم يتقدم بنفسه للعمل ، مثلاَ : طلب قائد أحد الفيالق منه مدداَ أو يأذن له بالانسحاب . فرد عليه أن ليس هناك من مدد ، و أنه يجب أن يحفظ موقفه حتى يفنى آخر رجل في فيلقه . و سأله أركان حربه ما هي خطته ، حتى إذا أصابه سوء جروا عليها ، فأجابهم : (( الخطة هي الثبات إلى أن نفوز أو يهلك آخر رجل في جيشنا )) .
ـــ تصرف نابليون : كان مركزه على قمة (( لايل اليانس )) وراء قلب صفوفه . و كان أمامه خوان ( طاولة ) عليه الخرائط و الرسوم الحربية . و بيده مرقب ( تلسكوب ) يرقب به حركات الجنود ، و سير القتال ، و إلى يساره الجنرال (( سولت )) يتلقى أوامره فيرسلها سراعاَ إلى محل الإيجاب ، بأيدي كبار الضباط ، الواقفين وراءه على الأقدام ، استعداداَ للعمل . ووراء الإمبراطور أركان حربه على خيولهم ، في أتم الاستعداد للموت أو الحياة .
و لما فشل هجوم ناي ، الأخير ، و اتصلت ميسرة ولنجتن بميمنته ، و حمي وطيس القتال ، فهم قائد الدنيا ، أنه وارد مورد الهلاك ، فنهض عن كرسيه ، و امتطى صهوة جواده ، و رام الانسحاب ، فتعذر عليه ، لأن العدو على الأعتاب . فلم تبق لديه وسيلة إلا المناداة بحرسه الخاص . فرتب أولئك الفدائيين الأعزاء في صفين ، و سلم قيادتهم للمارشال ناي الخبير و رافقهم الإمبراطور ، على حصانه مسافة ، و هو صامت . و لما وصل النقطة التي يفارقهم عندها الفراق الأبدي ، رفع يده ، و مدّ سبابته نحو الإنكليز ، دون كلام ما . ففهم حرسه أنه يعني : هذا هو طريق نجاتكم الوحيد و هو طريق النجاة من العار بتضحية الحياة .
فصاح الحرس بصوت واحد : (( ليحي الإمبراطور )) . و انحدروا إلى وادي ظل الموت . ووجهتهم يمين قلب الجبهة الإنكليزية ، و في نفس الوقت جهز القائد ( دانزلوت ) الذي حل لاهاي سنت ، هجوماَ آخر على ميسرة قلب الإنكليز . فكان قلب الإنكليز مهاجماَ من الجانبين فغنم الفرنسيون مدافع إنكليزية ، وجهوها إلى الإنكليز فضاقت الجنود الإنكليزية ذرعاَ بذلك . و عجز برنس أورانج عن نجدتها ، و ارتدت بعض الفصائل التي كان ولنجتن قد أرسلها للنجدة . فاضطر الدوق أن يتقدم بنفسه لقيادتها . هنا بلغت المعركة أوج عظمتها و اشتدادها .
و لما تمكن ولنجتن من صد هجمات دانزلوت ، أسرع لإنقاذ ميمنته من الحرس الإمبراطوري الشديد البأس ، و هو في منتهى الاستبسال . فأصيب تحته حصانان ، فترجل ، و سار في مقدمة الحرس ، شاهراَ سيفه . و وصل الربوة التي عليها جنود (ميتلاند) فجرى لهم ما يأتي :
وصل المارشال ناي إلى قمة الربوة ، فلم ير أحداَ من الجنود الإنكليزية . فتحير لحظة . ثم رأى بعض الحرس الإنكليزي فتقدم نحوهم ، على أنه لم يتقدم ثلاثين ياردة ، حتى انحنى رجل إلى الأرض و صاح صيحة ردّت أصداءها الحجارة الصماء : (( هيا بنا يا رجال الحرس ، هيا )) .
فتحول كل حجر في الأرض جنوداَ و قامت آلاف الجنود على الإقدام في وجه الحرس الإمبراطوري .
ذلك الرجل هو دوق ولنجتن نفسه ، و قد مدد جنود ميتلاند على الأرض ، لاتقاء نيران المدافع الفرنسية التي صبت نيرانها أمام الحرس الهاجم . فلما وصل الحرس إلى القمة التي عليها جنود ميتلاند و كفت المدافع الفرنسية عن إطلاق النار ، و حان وقت الاشتباك ، صاح ولنجتن بالحرس الإنكليزي فنهضوا نهضة الرجل الواحد . ذلك آخر سهم في كنانة نابليون ، و كان يرقبهم عن كثب ، فرآهم ناكصين تحت نيران الإنكليز ، و كان ما يزال لديه بعض الفصائل ، فأضافها إليهم ، و أمرهم بإعادة الكرة على الإنكليز . هنا برز دوق ولنجتن بمظهره الحقيقي ، ذلك المظهر الذي أهله لمنزلة أعظم قائد في تاريخ إنكلترا . فلم ينتظر طويلاَ وصول الفرنسيين بل لاقاهم برجاله ، فتوسل إليه أركان حربه أن يرأف بنفسه أن ترد موارد التهلكة . فصاح بهم : (( لا ضرورة لحياتي بعد ، فقد ربحت المعركة )) .
فحل الاضطراب بالفرنسيين . و كان بلوخر قد شدد الضغط على جناحهم الأيمن ، و لم يبق عندهم خيالة تقف في وجهه فتزحزح الحرس الإمبراطوري عن بلانشوا . و صار نابليون مهدداَ بقطع خط الرجوع .
و بدأت نقطة الانحدار في حياة نابليون ، فخطا آخر الخطى في حياة بسالته ، و مزاياه الحربية ، و مثل نابليون من يحسنها . فجمع بقية حرسه و نظمهم مربعات ، و سار بهم و هو في وسط أحد تلك المربعات ، يحيط المارشال سولت و الجنرالات برتران ، درو ، كوربينو ، دي فلاهون و جورغود . و صاح نابليون بهم : (( لقد طاب الموت )) . فتقدم إليه المارشال سولت ، و قبض على زمام حصانه قائلاَ : (( مولاي الإمبراطور ، هل حظ الأعداء ناقص فتريد أن تكمله ؟ )) .
و بعد جهد جهيد تمكن الجنرالات من رد نابليون عن عزمه فعندئذ ألوى عنان جواده ، و برح الميدان ، لآخر مرة في الحياة ، و هو يقول :