الجذور التاريخية للإستراتيجية العسكرية الجزائرية

PAK_fa

SU-57

إنضم
8 يونيو 2014
المشاركات
147
مستوى التفاعل
261
النقاط
63
Sans titre 2.png


هذه دراسة عسكرية تاريخية ، مستنبطة من أول بحث تاريخي حول حرب العصابات الثورية ، الذي نال الجائزة الثانية لأحسن بحث تاريخي سنة 2007 ، ومن البحث التاريخي الثاني ، الذي تناول الأركان العامة لجيش التحرير الوطني ، و الذي نال بدوره الجائزة الوطنية الأولى لأحسن دراسة و بحث تاريخي ، لسنة الموالية 2008 ، خلال المسابقة الوطنية التي نظمها المركز الوطني للدراسات و البحث في الحركة الوطنية و ثورة أول نوفمبر 1954 .
 
التاريخ العسكري : منبع الإستراتيجية

لقد سبق أن فصلنا عبر المقالات السابقة ، أهم النقاط المفصلية في تاريخ الحرب التحريرية ، و حاولنا إيجاد مقاربة منهجية لجانبها الإستراتيجي العسكري ، تفاديا منا للطريقة الكلاسيكية في كتابة التاريخ ، بعيدا عن تلك المقاربة التي اعتمدتها بعض الأقلام ، التي عالجت مجريات الحرب التحريرية ضمن إطار زماني ، مقيدة إياها عبر مراحل تنتهي في الغالب إلى تلك الفترات "المعروفة" لدى العامة ، و التي اشتهرت بمصطلحات ( الانطلاق ،التنظيم ، الشمولية ، المفاوضات ) .

واشرنا بان هذا التناول ينتمي إلى حقل التاريخ العام ، لا إلى التاريخ العسكري ، الذي يفرض دراسة حرب التحرير ، و يملي طرق جوانبها ، من خلال تسلسل و مضمون عمل الجماعات الثورية ، و الطرق و الأساليب القتالية لصانعي هذه الحرب ، أين يتم تحليل و فهم و شرح مجرياتها ، تكتيكيا و عملياتيا و استراتيجيا .و أكدنا بأن الثورة الجزائرية كانت قد اعتمدت في حربها أسلوب " الحرب الثورية "، و من اطلع على شهادات صانعي ثورة نوفمبر، يلمس ذلك بوضوح. و لكن ، ما طبيعة هذه الحرب الثورية ؟ و ما خصائصها إستراتيجيتها العسكرية ؟ و ما قيمتها في التاريخ العسكري ؟

و قلنا بأننا لا ندعي امتلاك الإجابة الصريحة و السريعة على مثل هذه التساؤلات، و نعتقد بأنها تحتاج إلى دراسة إستراتيجية جدية و متأنية، عندئذ يتم استخلاص أجوبة كافية و شافية. و انتهينا إلى القول بأنه لو تمكنت هذه الدراسة الأولية من تبليغ فكرة وجيزة ، عن مدى ما وصلت إليه عبقرية الفكر العسكري الجزائري المعاصر ، لتجاوزت حدود الآمال المعقودة عليها .

ذلك هو جوهر و غاية كتابة التاريخ العسكري .
 
اولائك الباحثين الذين وهبوا حياتهم و وضعوا كافة طموحاتهم في خدمة البحث لا يمكن بأي حال من الأحوال توفيرهم "حسب الطلب" أو إيجادهم بين عشية وضحاها نظرا لأن الجهود العلمية الأصيلة و المستمرة و المضنية هي التي يستحيل ارتجالها

Dont tout l’entrainement et l’ambition ont été consacrés à la recherche . cet la seule chose qu’il serait vraiment impossible d’improviser

نقول بصدق و نزاهة إن عمل المؤرخ العسكري يشبه في الكثير من جوانبه عمل القاضي بالمحكمة الذي يستجوب الأطراف المعنية و يستشير مساعديه و يسأل الشهود و يسأل في عمق ضميره عن الحجج و مصداقية الأدلة و قرائن الإثبات قصد الوقوف على جوهر الحقيقة قبل إصداره للحكم النهائي المنصف .

و في هذا السياق فانه لمن الإنصاف أن نبين ذلك الفضل الكبير للرعيل الأول من قادة الثورة الجزائرية الذين أقاموا أرضية جيش التحرير الوطني تلك الأرضية التي يجب أن نعتبرها بمثابة النواة الأولى للإستراتيجية العسكرية الجزائرية التي من خلال عمل أفواج مصطفى بن بولعيد و العربي بن مهيدي و باجي مختار و ديدوش مراد و بن عبد المالك رمضان و احمد زبانة و بالرغم من انه لم يكن بحوزتهم سوى بنادق فردية و بعض المسدسات و لكنهم في المقابل كانوا يملكون نوايا إستراتيجية ثابتة نابعة من بيان أول نوفمبر الذي كان جذر من جذور التاريخ العسكري الجزائري المعاصر حتى نكون أوفياء للمساعي و الجهود التي بذلت منذ الملتقى الوطني الأول لتاريخ الثورة (أكتوبر 1981 ) إلى غاية ذلك الملتقى الوطني الذي تمحور حول واقع الدراسات التاريخية و كتابة تاريخ الجزائر (غرداية 2006) و الذي أوضح خلاله الدكتور جمال يحياوي أن ما نشره جزائريون حول تاريخ الجزائر منذ الاستقلال هو ضئيل مقارنة بما نشر في الضفة الأخرى و أصبحت تشكل المرجعية المعتمدة منذ الاستقلال و المصدر الرئيسي للكثير من الكتابات التاريخية .

و للأمانة فإننا نذكر بان الأستاذ محمد شريف ساحلي قد أوجز منذ أمد بعيد مواقف العديد من مؤرخي الضفة الأخرى و أماط اللثام عن تلك النوايا غير البريئة التي سعت إلى تشويه تاريخ الجزائر و الجزائريين :

Défenseurs conscient ou involontaires du régime colonial les historiens s’appliquèrent à donner une image désespérée du passé algérien à dresser un bilan catastrophique appelant comme conquête française
 
Sans titre.png


بالإضافة إلى أن البعض من الكتابات الوطنية قد جانبت الحقائق التاريخية أحيانا و كان انحرافها عن الموضوعية و الأمانة العلمية ناجما بالدرجة الأولى عن تلك الاقتباسات الخاطفة علاوة إلى افتقارها للمصطلحات و التعابير الخاصة بالعلم و الفن العسكري التي من شانها أن تترجم قوة الجدارة العلمية و قيم الوقار الأكاديمي .

أن الموضوعية وليدة الجدية التي لا تستنبط الحقائق التاريخية المتعلقة بالتاريخ العسكري الإستراتيجي لثورتنا من تلك الألفاظ المبهمة و الأوصاف الجوفاء و الأحكام السطحية و العشوائية بل من المصطلحات العلمية الدالة و التساؤلات الجوهرية الهادفة و عمليات التحليل و التحقيق و تنظيم الحقائق الجزئية الخاصة بمجمل الاشتباكات و الكمائن و المعارك التي خاضها جيش التحرير الوطني عبر كافة التراب الوطني لتستخلص منها تلك الدروس التي يمكن لكل من المؤرخ العسكري و الخبير الإستراتيجي أن يرقى بها إلى قواعد العلم و الفن العسكري إذا ما تمكن من صياغتها في "مبادئ حربية" مستلهما عصارته من النقاط القوية في الجوانب التكتيكية و العملياتية و الإستراتيجية . التي صاغها رواد الرعيل الثوري منذ أن فكروا في إقامة إستراتيجية عسكرية لمجابهة العدو ابتداء من تلك الاشتباكات الأولى لجيش التحرير الوطني الفتي التي كانت ناجمة أساسا عن الاصطدام المفاجئ مع قوات العدو و هي في طريقها لربط الاتصال و التنسيق مثلما تبينه معركة (الجنين) التي دارت في ديسمبر بالأوراس أين حاول الاستعمار محاصرة الثورة و الثوار داخل الأوراس .

الجريء و العام الذي خطط له و أداره زيغود يوسف بالشمال القسنطيني في يوم 20 أوت 1955 و الذي انصب نحو هدف واحد : زعزعة الكيان الاستعماري و كانت هذه الأعمال بمثابة انطلاقة جديدة للحرب التحريرية ريثما تصعق القيادة العسكرية الفرنسية لنتائج معركة الجرف التاريخية بالواجهة الشرقية و معركة جبل زكري الشهيرة بالواجهة الغربية و كان تكتيك الثوار في اشتباك (تاجرة) و(تخراط) و معركة "الضباط" قد عمل وفقا لتلك المفاهيم الأساسية للحرب الثورية " المستوحاة من النقاط العشر " الواردة في جريدة المجاهد الثورية

ذلك أننا قد نجانب الحقيقة التاريخية و نبتعد عن الصواب المنهجي إذا ما كررنا العمل بتلك المصطلحات الجامدة و أخذنا بتلك الصيغ البالية التي تحشر الحرب التحررية في تلك "الفترات" أو "المراحل" (الانطلاق، التنظيم، الشمولية، المفاوضات....) التي تنسينا تضحيات شهدائنا و تحجب بطولات جيش التحرير الوطني و تجعل من أمجاد و مآثر الأمة تبدو و كأنها مجرد أحداث متأثرة تطفو على سطح الزمن .

 
انه لمن العبقرية أن نكتشف الحرب التحررية و هي تتدرج في تصاعد تاريخي لولبي المسار و عبر عتبات مشابه لتلك العتبات التي أوجدها المفكر (جورج قيرفيتش) (Georges GURVITCH) و التي تقودنا إلى ملاحظة و معاينة معطيات أخرى لجوانب المقاربة الحقيقة التاريخية التي يأتي إشعاعها مع كل عتبة أعلى و أفق جديد بهذه الرؤية المنهجية المفيدة و المقاربة الموضوعية الهادفة يتمكن المؤرخ العسكري من دراسة "مشكلات" تتطلب حلولا و أجوبة تستفيد منها الأجيال اللاحقة و تستنير بها لتوظيف هذه الخبرة العسكرية في مواجهة تلك الظروف المشابه التي عايشتها قادة الماضي مثلما أشار إلى ذلك أستاذ التاريخ العسكري (ولتر شوفلبرجر) (W.Chaufelberger)

و أكد بان حل هذه " المشكلات" التي قد تصادفها يجب أن يتم وقت السلم عن طريق إيجاد سيناريوهات ترتكز على تجارب التاريخ العسكري لأجل تمتين وصلابة التفكير العسكري الإستراتيجي للإطارات و تلك هي العبرة من دراسة "عتبات" التاريخ العسكري و ليس فتراته الزمنية التي عادة ما يتم سردها بأسلوب منفرد و لا طائل من ورائها سوى المهني الإخباري لأحداث الماضي التي لا تساعدنا على إدراك كيفية المساهمة الخلاقة في تطوير الفطر العسكري .

فلا شك في أن الدراسة الموفقة لهذا الماضي تنطلق من الملاحظة العلمية الجيدة التي تكون معاونا على فهم التسلسل الأفقي التدريجي للحادثة التاريخية و تكون مؤشرات التاريخ العسكري عاملا هاما في التمييز و الاستنتاج و التحصين قائد المستقبل ضد كافة "الكمائن الفكرية" لاسيما في مرحلة اتخاذ القرار كما يكون محيط هذه المؤشرات مجالا لمقارنة المعارف العسكرية و تقنيات التنظيم و التخطيط و الإسناد اللوجستيكي و عقيدة استعمال القوات ذلك لأن التاريخ العسكري يؤهل القائد و الخبير الإستراتيجي لامتلاك رصيد ينهل منه وفقا لاحتياجاته الفكرية عندما يبحث عن الأمثلة و النماذج الصحيحة و الموثوقة التي أكدت التجربة التاريخية فعاليتها ليدعم بها وجهة نظرة و توسيع بحر الاختبارات الممكنة أثناء اتخاذ القرار و بالتالي فهو يأخذ من عتبات التاريخ العسكري "خبرة حربية" من دون أن يخوض الحرب و "بأقل تكلفة" يدفعها في المقابل .
 
عودة
أعلى