نهوض العنقاء
لم تكن 11 سبتمبر/أيلول نقطة تحول بالنسبة لتنظيم القاعدة وحده، ولكن للعالم كله وفي القلب منه السعودية، حيث تسببت الأحداث وتداعياتها في تنامي المشاعر المناهضة للولايات المتحدة بشكل كبير، ونظر الكثير من المسلمين إلى الأحداث بوصفها حلقة في سلسلة تآمرية طويلة تقودها الولايات المتحدة لتبرير توسيع وجودها العسكري في العالم الإسلامي.
تسبب الغزو الأميركي في زيادة المشاعر المعادية للولايات المتحدة في السعودية، وزُعم أن مسحا أجرته الاستخبارات السعودية بعد أسبوع واحد من القصف الأميركي وجد أن 95% من السعوديين متعاطفون مع قضية ابن لادن (*)، لذلك فإن الرياض قد قاومت بشدة الضغوط الأميركية حتى تلك اللحظة لتصعيد حربها من جديد على الجهاديين العائدين من ساحات القتال، رغم أن 15 من أصل 19 خاطفا شاركوا في أحداث سبتمبر/أيلول كانوا في الأصل من السعوديين، وهي مقاومة استمرت قبل أن ينقل التنظيم أنشطته إلى المملكة بعد عام واحد فقط.
على جانب آخر، كان على المملكة أن تدفع ثمنا مناسبا للولايات المتحدة لتتجاهل الأضواء المسلطة على هوية الخاطفين، وتمثل هذا الثمن من جديد في فتح الأجواء السعودية على مصراعيها أمام الطائرات الأميركية لتنفيذ هجماتها على أفغانستان، ثم لاحقا ضد العراق، مع تحمل (10) الكثير من التبعات اللوجستية مثل تزويد الوقود للطائرات الأميركية، وحتى زيادة إمدادات النفط للولايات المتحدة بأكثر من مليون برميل يوميا لتعويض نقص الإمدادات العراقية. وفي وقت لاحق، بدا أن الرياض لم تعد قادرة على دفع الكلفة السياسية للوجود الأميركي الصارخ على أراضيها، حيث جرى نقل مركز قيادة العمليات الأميركية من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية إلى قاعدة العديد في قطر باتفاق ثلاثي.
من جانبها، كانت الولايات المتحدة حريصة هي الأخرى على الحفاظ على استثمارها في العلاقة طويلة الأمد مع النظام السعودي لتأمين المصالح الأميركية الإستراتيجية، وفي مقدمتها استمرار تدفق النفط، والحفاظ على السعودية كمركز لوجستي لواشنطن في المنطقة، وكان ذلك يعني الحاجة إلى التغطية على أي صلات مؤسسية محتملة للرياض بالخاطفين المتورطين في أحداث سبتمبر/أيلول. لذا لجأت واشنطن من بين أمور أخرى إلى إخفاء 29 صفحة من تقرير مشترك للكونغرس يتناول الروابط السعودية مع الخاطفين، كما ضاعفت إدارة بوش من جهود إلقاء اللوم على صدام حسين، حيث كانت بحاجة إلى كبش فداء لـ "الحرب ضد الإرهاب".
ولكن "الحرب على الإرهاب" والعراق سرعان ما انقلبت بنتائج مختلطة في أفضل الأحوال، معاكسة على أوقعها، لتسهم في زيادة النفوذ الإيراني بالعراق، وتولدت الحاجة من جديد إلى توظيف الإرهاب "المزعوم" في خدمة المصالح الأميركية، ما كان يعني تحويل الغضب الشعبي ضد الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى حرب طائفية تدور رحاها بين السنة والشيعة في المقام الأول.
عُرفت هذه السياسة باسم "إعادة التوجيه"، كما وصفها صحافي التحقيقات "سيمور هيرش" في مقاله(11) الشهير في مجلة نيويوركر عام 2007، وهي خطة تمت هندستها من قِبَل كل من نائب الرئيس الأميركي "ديك تشيني"، ونائب مستشار الأمن القومي "إليوت أبرامز"، والسفير السابق لواشنطن في الأمم المتحدة "زلماي خليل زاد"، والأمير "بندر بن سلطان"، مستشار الأمن القومي السعودي وسفير المملكة لدى الولايات المتحدة لأكثر من عقدين ومهندس سياستها الخارجية، وقامت خطة إعادة التوجيه بالأساس على تقديم واشنطن والرياض من جديد للدعم للحكومات والجماعات المناهضة لإيران بهدف إضعاف الدولة الشيعية وحلفائها، ومنحت هذه السياسة قُبلة حياة جديدة للعلاقات السعودية الأميركية التي كانت مهددة بالتداعي بفعل أصداء 11 سبتمبر/أيلول.
كانت البداية في لبنان، وكانت الخطة تهدف للعمل بشكل وثيق مع حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة المدعومة ماليا من السعودية للحد من نفوذ "حزب الله" الشيعي الموالي لإيران، بينما في العراق كانت تستلزم العمل بشكل أوثق مع القوات السنية والكردية لكبح جماح النفوذ الشيعي المتنامي الذي ولّده الغزو الأميركي، وبالمثل تعزيز معارضي الأسد من الإسلاميين في سوريا. وقد ناقشت مذكرة (12) سرية لوزارة الخارجية الأميركية عام 2006 هذه الخطط الأميركية لتشجيع المخاوف السنية من تنامي النفوذ الشيعي، مع اعترافها أن هذه المخاوف ربما يكون "مبالغ فيها في الكثير من الأحيان".
ولكن خطة إعادة التوجيه لم تعمل بشكل جيد في النهاية وسرعان ما انقلبت ضد أصحابها كما هي العادة، حيث فشل "بندر بن سلطان" في الوفاء بتعهده للأميركيين حول قدرة بلاده على التمييز بين "الإصلاحيين والمتطرفين من الإسلاميين" وفق تصنيف "كونداليزا رايس" مستشارة الأمن القومي الأميركي آنذاك. وتجلى هذا الفشل بوضوح في أعقاب اندلاع الثورة السورية، بعدما بدأت المملكة بضوء أخضر أميركي في توجيه الدعم إلى معارضي بشار الأسد في سوريا، خلافا لسياساتها المناهضة للربيع العربي على طول الخط.
أدى التدخل الأجنبي إلى تحويل مسار الثورة السورية من هبة شعبية ضد نظام مستبد إلى حرب أهلية بين السنة والشيعة، في وقت تجدد فيه العنف الطائفي في العراق من جديد في صورته الأولى بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق منتصف عام 2014، وسرعان ما عبر التنظيم الحدود لسوريا، ليتحول في غضون أقل من عام إلى فرانكنشتاين العالم المتحضر، مثيرا قدرا غير مسبوق من الذعر عبر كل من ضفتي الأطلسي.
لم تكن الولايات المتحدة آنذاك مستعدة لخوض حرب جديدة في الشرق الأوسط، أو على وجه الدقة فإن الرئيس الأميركي السابق أوباما ظل متشبثا بسياسته بالنأي عن التدخل العسكري في المنطقة التي صار ينظر إليها على أنها مصدر للشرور. لكن ذلك لم يمنع من الحاجة إلى دمية جديدة لتحمل الركل وتوجيه الغضب الأميركي الغربي، وفي تلك اللحظة لم تعد هناك حاجة إلى البحث عن كبش فداء، في وقت لم تعد الولايات المتحدة تحمل ذات الالتزام فيه تجاه الشرق الأوسط، الذي بدأ يفقد ميزته الإستراتيجية كمصدر أوحد للنفط.
لطالما أبدى (13) أوباما انزعاجه بوضوح من أن أرثوذكسية السياسة الخارجية تجبره على اعتبار السعودية حليفا، وخلال اجتماع في قمة "أبيك" مع مالكولم ترنبول، رئيس وزراء أستراليا، وصف أوباما كيف شاهد إندونيسيا تنتقل تدريجيا من "الإسلام التوفيقي" على حد وصفه إلى "تأويل أقل تسامحا"، انتقال عزاه أوباما إلى كون السعودية أنفقت الأموال ودفعت أعدادا كثيرة من الأئمة والأساتذة نحو البلاد لتلقينها النسخة الهوياتية من الإسلام والتي تفضلها العائلة الحاكمة السعودية. وحين سأله ترنبول: "أليس السعوديون أصدقاءك؟"، رد أوباما بابتسامة باهتة مع عبارة مقتضبة قائلا: "الأمر معقد"، وهي إجابة غير معتادة سلطت الضوء على الفتور الأميركي.
خلال فترة حكم أوباما الثانية، واجهت السعودية ضغوطا غير مسبوقة على سياستها، وأطلق السياسيون والصحفيون الأميركيون العنان لمهاجمة المملكة بنبرة لم يسبق لها مثيل حتى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول نفسها، ومرر الكونغرس مشروع قانون يسمح بمقاضاة السعودية من قِبَل أسر ضحايا أحداث 11 سبتمبر/أيلول على الرغم من فيتو أوباما نفسه، وفرضت وزارة الخزانة الأميركية رقابة غير مسبوقة على التعاملات المالية للسعوديين والمؤسسات السعودية، وتزامن ذلك مع التضييق على المساجد والهيئات الدينية السعودية في الغرب. وعلى الرغم من أن المملكة عانت هي الأخرى من هجمات "تنظيم الدولة" على أراضيها، فإن ذلك لم يكن كافيا ليُبعد عنها ولو قدرا قليلا من اللوم.
وكانت الضربة القاصمة بالنسبة إلى السعودية هي أن أوباما سعى للتصالح مع إيران، خصم السعودية الإستراتيجي، مبرما اتفاقا تاريخيا عام 2015 يحجم برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات. وحتى مرشحا الرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، اللذان اختلفا حول كل شيء وقتها، كان اتفاقهما بشأن السعودية هو الاستثناء الوحيد للقاعدة، ففي حين
استنكرت (14) كلينتون دعم المملكة "للمدارس والمساجد المتطرفة حول العالم التي وضعت الكثير من الشباب على طريق التطرف" كما قالت، كان ترمب حادا كعادته و
اعتبر(15) أن السعوديين هم "أكبر ممول للإرهاب في العالم".
كان المعبد يتداعى فوق رأس السعودية في واشنطن بلا أي بصيص للأمل، قبل أن يبدأ ترمب رئاسته الغامضة والمثيرة للجدل. ولحسن الحظ، لم تكن رئاسة رجل الأعمال الأميركي غريب الأطوار على ذلك القدر من السوء بالنسبة للسعوديين كما توقعوا، بعد أن اختار الرياض محطة أولى لجولاته الخارجية عكس ما قد يتوقع الجميع تقريبا، حيث مارس رقص "العرضة" المحلية قبل أن يعود لبلاده محملا بوعود بمليارات الدولارات والكثير من التغيير في الرياض.
وللمفارقة، كان التغيير قد بدأ يقع بالفعل، حيث كانت قيادة جديدة ممثلة في ولي العهد السعودي آنذاك "محمد بن سلمان" تشق طريقها في المملكة منقلبة على الإرث التاريخي المتعارف عليه لطريقة عمل السلطة في البلاد. وقد بنى ابن سلمان رحلة صعوده على ركيزتين أساسيتين (16): أولاهما خطته لفطام المملكة عن اعتمادها المستدام على النفط، وثانيهما إنهاء الترتيبات طويلة الأمد للسياسة الخارجية السعودية التي قامت على السماح لـ "الإسلاميين الأكثر راديكالية" بنشر أفكارهم وعلى دعمهم في الصراعات المسلحة لخدمة المصالح السعودية حول العالم.
كان "ابن سلمان" أكثر صراحة من أي مسؤول سعودي آخر في التاريخ حين اعترف أن بلاده قامت بدعم وتسليح الإسلاميين في أفغانستان بطلب من الغرب من أجل إسقاط الاتحاد السوفيتي، ورغم أنه بدا غارقا لأذنيه كالآخرين في حالة من الإنكار حين نفى وجود ما يُعرف بـ "الوهابية" في حواره الأخيرة مع جيفري غولدبيرج (17)، لكنه كان محقا من وجه ما أيضا، فلم تكن الوهابية الرسمية السعودية عبر تاريخها أكثر من أداة دينية مستأنسة سياسيا وظّفها آل سعود بمحض إرادتهم لخدمة مصالحهم السياسية.
في ضوء ذلك، لم يعد من المستغرب أن يصبح (18) "الجهاد" في سوريا حراما بعد أن كان في أفغانستان "فرض عين"، وأن تختفي شرطة الرقابة الدينية، وأن يدرك الجميع في الأخير أن حظر قيادة المرأة للسيارة لم يكن من الدين، وأن تستضيف السعودية حاليا دور السينما والأفلام الأجنبية وحفلات الغناء، مع اشتراط عدم التمايل مع الأنغام، في عملية انسلاخ سريع غير مسبوقة من ثوب المملكة المحافظ، فقط لأن المزاج العام للسلطة الجديدة تجاه الدين قد تغير، كما أن مصالحها السياسية بالطبع كانت آخذة في التحول بشكل سريع.
على مدار تاريخهم، كانت الشرعية الدينية أداة حيوية للجدارة الداخلية والإقليمية بالنسبة إلى آل سعود، ولكن النخبة الحاكمة الجديدة في السعودية صارت تنظر اليوم إلى ذلك الإرث الديني كعبء ثقيل ينبغي التخلص منه بفعل التغيرات التي أحدثتها سنوات "الحرب على الإرهاب"، ثم تداعيات الثورة السورية في البيئة العالمية، بيئة صارت اليوم أقل ترحيبا بملوك معممين يجالسون رجال الدين بشكل أسبوعي ويدعمون تنظيمات مسلحة يصنعونها على أعينهم أو نتاجا لأيديهم، ولكنها بيئة أكثر ترحيبا بولي عهد شاب يرتدي ملابس أنيقة، ويتجول في الولايات المتحدة مبشرا ببلد جديد كرّس نفسه لمحاربة "الإرهاب"، بينما يعي ذلك الشاب في قرارة نفسه أن أسلافه قد صنعوا ذلك "الإرهاب" على أعينهم منذ زمن ليس ببعيد.