- إنضم
- 1 يناير 2014
- المشاركات
- 9,006
- مستوى التفاعل
- 42,217
- النقاط
- 113
مقدمة :
لم يكن للوحدة السياسة في الدولة الرومانية في العهد الامبراطوري ان تكتمل ما لم يتحقق لها ادنى حد من وحدتها الاقتصادية والاجتماعية تشد بين اطراف هذه الوحدة .فالجمهورية ليس انها لم تفعل شيئا في سبيل تحقيق مثل هه الوحدة بل لم تهيى لها الظروف لظهور عفوي ,اذا ان جل همها انصرف لاشباع حاجات روما المباشرة بالاستغلال والاحتكار المباشر لخيرات وثروات البلاد المفتوحة وان توفر للايطاليين احيانا بغير رضى منها المنافع التي يتمتع بها المواطنون من سكان روما , دون ان تضمن لهم الوضع الحقوقي المساوي لما ينعم به المواطن الروماني في المدينة , اما الامر فقد تما على غير ذالك مع الامبراطورية تحت تاثير ادارة واعية مدركة لاغراضها ناشدة لاهدافها من جهة ومن جهة اخرى بفضل التطور والتغيرات الذي خضع له وضع الامبراطورية العام خلافا للعهد الجمهوري بعد ان عرفت ان تهيء له الاسباب اللازمة واهم هذه التغيرات كان استباب السلام الروماني Pax Romana وانتظام الادارة في الولايات ..وقد صحب هذه التغييرات انقطاع دابر الارتبكات الادارية وتوقف استغلال هذه الولايات المفرط لصالح اقلية ضئيلة من اصحاب الامتيازات , صحيح انه بقى شيء من هذه الامتيازات في النظام الجديد انحصرت في بعض المقاطعات و لفائدة فئة قليلة من الناس تميزت عن غيرها في هذه المناطق والطبقات الى ان الفارق الذي كان يميز وضع هؤلاء عن وضع اولئك لم يكن ليثير الحفائظ والضغينة في القلوب والنفوس من سكان الامبراطوية , بينما حرص الاباطرة على انتقاء اصحاب هذه الطبقات اقله فيما يتصل بالافراد بصورة اوسع وبشكل ارحب من سكان باقي الولايات و وفقا لقواعد واصول جديدة , وهكذا اطل على الدنيا في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي طراز حياة جديد شاع وعمم ولم يلبث ان رسخ في الارض , وكان من مظاهر هذا الوضع ومن نتائجه ايضا ان روما لم تتنازل و تشارك فيه على قدم المساواة وبقيت محافظة على بعض ما كانت تتمتع به من امتيازات مقارنتا برعايها , الى انها عولت الا يكون دورها فيه غير دور عاصمة تؤمن الانسجام بين اجزاء مقاطعتها وتجري بينها العدل والمساواة ,,,,,
______________________________
الامن الغذائي وهواجس الاباطرة
ان الشعور الذي ساد الجميع من سكان الامبراطورية خلال القرنين الاولين الميلادي هو ان الحياة الاقتصادية تميزت بالازدهار والانطلاق , وقد راح معاصرو هذا العهد يعزون الفضل هذا كله للجهاز الاداري للامبراطورية ولا سيما للاباطرة انفسهم وهم في ذالك يرددون ما تنفخ به ابواق الدعاية الرسمية للدولة .ومع هذا اننا لانستطيع ان نعزو فضل ذالك اليهم اي الاباطرة الى من ناحية فرعية باعتباره نجاحا او نتيجة لسياستهم الحربية والادارية التي ادت الى تنظيم الجهاز الاداري و النظام القضائي في الولايات وتوطيد السلام في ربوع الامبراطورية وهو بتالي ما انعكس و خلق حالة من الازدهار الاقتصادي هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الاباطرة انفسهم كثيرا ما احترزوا من تطبيق سياسة اقتصادية موجهة ولا سيما من وضع فلسفة اقتصادية تقوم على توجيه الدولة للاقتصاد ولعل خير ما كانوا يرجونه الا يتدخلوا في امور وموضوعات كثيرا ما اوعزتهم الحيلة في معالجتها وما كانوا ليرغموا على لتدخل بتاتا لولا اظطرارهم لمواجهة قضيتين عصيبتين هما تامين تموين روما بالقمح وتموين الجيش الروماني على الحدود ....
لقد كانت روما اذ ذاك مدينة ضخمة عملاقة من كبار ميتروبوليس العالم القديم لم تبلغ بعدها مدينتا هذه الضخامة الى غاية بداية الثورة الصناعية في اوربا وقد اختلف المؤرخون وتباينوا كثيرا فيما بينهم حول عدد سكانها وذالك لقلة المصادر الموثوقة التي يصح الاعتماد عليها فقط فرط بعض هؤلاء المؤرخون المعاصرون وراح يقارب سكان المدينة بمليوني نسمة بينما القول بمليون نسمة لم يكن بمبالغة او مستغرب , ومهما يكن من الامر , فهذه الجماهير المجمهرة التي تعمر بها العاصمة لم تكن لتنتج شيء كبيرا من عهد بعيد وقد اقتصر نشاط اليد العاملة فيها على بعض المصنوعات اليدوية لسد الحاجات المحلية , فالمدينة قبل كل شيء مستهلك اكول دون اي بديل او عوض وهي الى هذا مستهلك الف منذ عهد سحيق ان يعيش حياة رخيصة نظرا للتدابير التي كانت تتخذها الحكومة لتبقى اسعار القمح رخيصة ولتوزع القمح مجانا على المواطنين الفقراء والمعوزين او ما كان يعرف بقفة الاعانة sportula ولما كانت عملية توزيع الحبوب والقمح المجاني جزءًا من استراتيجية القيادة الرومانية للحفاظ على الهدوء بين سكان المدينة و المناطق الريفية المضطربة من خلال تزويدهم بما يسميه الشاعر الروماني جوفينال بسخرية "الخبز والسيرك panem et circenses " كان من المستحيل مجرد التفكير بقطع هذه التقاليد المرعية منذ القدم وضرب عرض الحائط بها لما في ذالك من تهديد للسلم والامن الاجتماعي من جهة ومن جهة اخرى باعتبار ان الامبراطور في نظر الجماهير هو الخليفة الشرعي للحزب الشعبي الديمقراطي populares وممثل التريبيون حامي الشعب ونصيره , فكان على الامبراطور والحالة هذه ان ينظم على احسن وجه مصلحتي التوريدات و مصلحة توزيع القمح Cura Annonae و cura alimentorum distribuendorum لتامين العيش لما لا يقل عن 200 الف نسمة او ما يزيد قليلا عن هذا العدد في عهد اغسطس من فقراء روما ومعدميها الموزعين على 45 دائرة من دوائرها , يتلقون على مدى ايام الشهر مجانا كمية القمح اللازمة لاعالتهم , اما الباقون فكان على دائرة التموين ورئيسها Praefectus alimentorum ان تسعى جاهدة لتامين حاجاتهم بصورة منتظمة وباسعار مقبولة , اما في اوقات الفاقة والمجاعات فكان الامبراطور يدفع من ماله الخاص لتجار القمح لتامين احتياجات للشعب كما حدث في عهد تيبريوس الذي حذر خلفائه انه اذا اهملت مصلحة توزيع القمح بالمجان فسيكون ذالك خراب الدولة المطلق .
توزيع الخبر بالمجان كما تظهر في احد جدريات مدينة بومبي
كل هذا وما اليه الى جانب هبات الاعياد والالعاب المعدة للترفيه عن الشعب , كالاعطيات congiaria التي توزع عينا ومقدارها 445 sestertius في عهد اغسطس و 300 sestertius في عهد تيبريوس وكاليغولا وهو الرقم المالوف ثم ارتفعت الكمية في القرن الثاني بعد اخضاع داسيا الغنية بمناجم الذهب بحيث تجاوزت 650 denarius في عهد ترجانوس وبلغت 1000 في عهد هدريانوس لتنزل الى 850 sestertius في عهد ماركوس اوريليوس واستقرت على 800 sestertius في عهد كومودوس , وهي مبالغ كانت توزع على المواطنين المتوسطي الدخل اثناء بعض الاعياد الذين لا يستفيدون من المساعدة الغذائية المجانية وهذا في ما يتعلق بالمساعدات المادية والعينية اما من حيت جهة الادارة الفنية لاستيراد وتنظيم توزيع هذه المساعدات فكان ذالك يعني انشاء مفوضتي التموين والتوريد cura alimentorum و Annonae و توفير وسائل النقل البحري وتجيهز ارصفة نهر التيبر وتجهيزيها بمخازن القمح الى جانب تهياءة وتوسيع مرفاء اوستيا مرفىء روما الرئيسي لاستقبال عبارات القمح الضخمة التي تجوب المتوسط من شرقه الى غربه ..
اما امر تموين الفيالق وتجهيزها بالعدد والعتاد والمؤونة فقد وضع الدوائر المعنية امام مسؤولية ثقيلة كان حلها مع ذالك ابسط واسهل من تموين الشعب فمجموع افراد الجيش المطلوب اعالتهم من العراق والقوقاز الى بريطانيا وافريقيا لم تتجاوز اعدادهم 300 الف جندي وكانت اقل من هذه الجماهير الشعبية التي يجب مساعدتها في روما ثم ان هذا الجيش لم يكن مجتمعا او محتشدا كهذه الجماهير المتراصة في روما والتي تعجز اخصب السهول المجاورة عن اشباعها بل كان موزعا على الحدود في قواعد ثابتة تحمي الاراضي والمزارع التي كانت تستغل في المؤخرة وكان يكفي لتامين حاجته من الطعام بان يحصل من الولايات الغنية القريبة له فائضا كافيا من محصول الارض او موارد غذائية اخرى وان يؤمن نقلها بحيث تصل الى المستهليكن بسلام , اما المشكلة الاولى فكان حلها اسهل بواسطة الاموال التي استخدمت لشراء فائض المحصول لتموين الجيش , اما المشكلة الثانية فهي الادق والاصعب سواء للجيش او لروما نفسها و صعوبة الاولى نظرا لوقوع هذه الحدود والقواعد العسكرية في مناءى عن البحر المتوسط وموائنه وهذا ما دعا لشق الطرقات البرية عندما يتعذر النقل النهري, اما بالنسبة لروما فقد كانت الممرات الملاحية التي تربط روما بمراكز إمدادات الحبوب (مصر وشمال إفريقيا وصقلية وربما أماكن أخرى) ذات أهمية استراتيجية. كل من يسيطر على إمدادات الحبوب كان له مقاييس هامة للسيطرة على مدينة روما.
حيث كان توفير الحبوب إلى روما مهمة شحن رئيسية وإدارية للرومان.و لم يكن من الممكن توفير احتياجات روما عن طريق النقل البري. كون "شحن الحبوب من أحد أطراف البحر الأبيض المتوسط إلى البحر" أرخص من "حمله عن طريق البر ، وهكذا كان هناك أسطول كبير من سفن الحبوب مطلوبة لجلب الحبوب من صقلية وسردينيا القريبة نسبيا ، و شمال أفريقيا البعيدة ، ومصر الأكثر بعدا. في مسافات الخطوط المستقيمة (والسفن الشراعية لا تسافر عادة في خطوط مستقيمة) ، كانت المسافات من صقلية إلى روما أكثر من 500 كيلومتر (310 ميل) ،و من قرطاج في شمال أفريقيا أكثر من 600 كيلومتر (370 ميل) ، ومن مصر المزيد من 2000 كيلومتر (1200 ميل). وقد تكون أوقات الإبحار من موانئ أوستيا (بالقرب من روما) وبوتولي Puteoli (بالقرب من نابولي) إلى الإسكندرية في مصر قصيرة لمدة 14 يومًا.الى إن العودة إلى روما تستغرق وقتًا أطول لأن الرياح كانت عادة سلبية وكان على السفن أن تعانق السواحل والسفر بطريقة مستديرة "كانت الرحلة ... من الإسكندرية إلى روما معركة مستمرة ضد رياح كريهة." وقدر ليونيل كاسون أن متوسط الوقت للرحلة كان 70 يومًا تقريبًا بحيث كانت الحبوب تعابء في أكياس خاصة، بدلاً من حملها في حاويات السفن.حفاظا على جودتها من رطوبة البحر
وبالنظر إلى الوقت اللازم لتحميل وتفريغ سفن الحبوب يدوياً ، فمن المرجح أن تكون السفن التي تعبر مسار مصر إلى روما قد أكملت رحلة واحدة في السنة فقط. ويمكن القيام بالعديد من الرحلات المستديرة سنوياً من شمال أفريقيا أو صقلية.والى هذا يعتقد ان اسبانيا كانت أيضا مصدرا هاما لزيت الزيتون ، وربما الحبوب. وذا كان موسم الحصاد للحبوب في مصر القديمة من أبريل إلى أوائل يونيو. ووقت بدأ فيضان النيل السنوي في شهر يونيو ، فبالتالي كان من الضروري الانتهاء من الحصاد قبل أن تغطي مياه النهر الأرض.و يبدو أن الحبوب في مصر كانت تحصل عليها روما كضريبة على المزارعين. حيث تم نقل الحبوب في الغالب من خلال المراكب على مختلف روافد نهر النيل إلى بحيرة Mareotis المتاخمة للجزء الجنوبي من مدينة الإسكندرية. هناك يتم تفتيشها ومعاينة الجودة ، وعندما يتم قبولها ، تنقل إلى ميناء الإسكندرية العظيم ، حيث تم تحميلها على متن السفن الى روما. اما الحبوب من شمال افريقيا. فقد وجد علماء الآثار في شمال أفريقيا تسعة وعشرون ميناءًا (غير مصر) ، يُحتمَل أن يكونوا مصدرًا حبوبًا إلى روما ، تراوح مكانها من ليبيا إلى المغرب وربما كان اكبرها قرطاج. وبالنظر إلى عدم وجود أنهار صالحة للملاحة في المنطقة ، تعين نقل الحبوب إلى هذه الموانئ عن طريق البر ، مما يوحي بأنه ، بسبب تكلفة النقل البري ، زرعت الحبوب على مقربة من الموانئ. و من المحتمل أنه تم نقل الحبوب إلى الموانئ في عربات بأربعة عجلات مرسومة بواسطة أربعة ثيران ، كل عربة تحمل 350 كيلوغراما (770 رطل) إلى 500 كيلوغرام (1100 رطل) و قد تكون الحبوب من Cyraenica (ليبيا) القديمة مهمة لأن الحصاد المبكر يمكن أن يمد روما قبل أن يتم حصاد مناطق زراعة الحبوب الأخرى.
وخلال العهد الجمهوري ، تم شحن الحبوب إلى مدينة روما من صقلية وسردينيا و خلال القرن الأول قبل الميلاد ، كانت المصادر الرئيسية الثلاثة للقمح سردينيا وصقلية وشمال أفريقيا ، أي المنطقة التي كانت مركزًا في مدينة قرطاج القديمة ، تونس الحالية. ومع انضمام مصر إلى الإمبراطورية الرومانية عهد الإمبراطور أغسطس ، أصبحت مصر المصدر الرئيسي لتوريد الحبوب لروما ،وقد كان المؤرخ جوزيفوس يدعي أن أفريقيا كانت تغذي روما لمدة ثمانية أشهر من السنة ومصر أربعة فقط. على الرغم من أن هذا التصريح قد يتجاهل الحبوب من صقلية ، ويبالغ في تقدير أهمية أفريقيا ، إلا أن هناك القليل من الشك بين المؤرخين بأن أفريقيا ومصر كانت أهم مصادر الحبوب لروما الى جانب قمح البحر الاسود القادم من مملكة البوسفور العميلة في ما يعرف اليوم بالقرم , و في الفترة الجمهورية وللمساعدة في ضمان إمدادات الحبوب لروما ، ، قام Gaius Gracchus بتوطين 6000 مستعمر قرب قرطاج في القرن الأول قبل الميلاد ضمن ما عرف بمشروع قانون سمبورنيا Lex Sempronia ، ومنحهم حوالي 25 هكتارًا (62 فدانًا) لزراعة الحبوب التي يعاد تصديرها لروما كما نصت حزمة قوانين Lex Sempronia المثيرة للجدل حينها على ان يتم توزيع القمح على المواطنين الرومان بالمجان منعا لاستخدام سلاح القمح في الانتخابات القنصلية كوسيلة لتقرب من المواطنين وكسب تعاطفهم
التجارة الداخلية ومقومتها :
وهذه المسؤوليات الحكومية تقتضي للنهوض بها المال والاخصائين فاذا ما نظرنا اليها بمنظار العالم الروماني والمستوى الحضاري المادي الذي حققته بعض اجزاء هذا العالم فلم تكن هذه المهام والمسؤوليات التي واجهها فوق طاقته اذا ما توفرت له ادارة رشيدة حكيمة فالمال الذي كان لا بد منه لتحقيق هذا كله كانت توفره موارد البلاد الاقتصادية ولم يكن ليكلف عبئا ثقيلا عليها
فابسثتاء مصر التي بقيت خاضعة لنظام خاص من الاستغلال والاستثمار لا رحمة فيه للفلاح المصري كان الوضع القائم مؤاتيا لحياة اقتصادية ناعمة تعم جميع اطراف الامبراطورية لا سيما والاستقرار السياسي الذي تنعم به البلاد كان يشجع على القيام بهذا المجهود فروما والجيش وشعوب الامبراطورية الذي فاقوا الخمسين مليون نسمى الفا في الامبراطورية سوقا للاستهلاك لا حدود لها تقريبا اذا كان من اتساع هذه الحاجات وتنوعها ما يتطلب المزيد من انتاج محاصيل الارض فالي جانب القمح الذي كان يؤلف اساس الغذاء يجب ان نضيف محاصيل غذائية اخرى متنوعة يتطلبها الكثيرون من الزبائن والمستهلكين ومقادير هائلة من المنسوجات والمصنوعات التي يمكن نقلها على طريق القائمة في جميع اطراف الامبراطورية
وقد كانت روما لوحدها قطب جذب ومركز ثقل هائل لكل ما يمكن ان يبلغ في طريقه الى موانىء البحر المتوسط , حتى ما كان منها من الكماليات الغالية الثمن لوجود اصحاب ثروات هائلة طائلة في احيائها وصروحها , اما تمركز الفيالق ضمن قواعد ثابتة على اطراف حدود الامبراطورية وحدودها المتاخمة لشعوب البرابرة قد بعث في هذا الاقطار المتاخرة في تطورها عن ركب الحضارة , ونتيجة حتمية لاحتكاكهم بالعالم الروماني نشاطا اقتصاديا عارما لم تعرفه من قبل كان من بعض نتائجه الخيرة احياء الارض و اعمارها واستقرار السكان في قرى سرعان ماتحولت الى مدن على حدود الامبراطورية وانشاء المصانع والمعامل في ارجائها , ثم ان شبكة الاتصال المنتظمة داخل الامبراطورية والتي تربط مقاطعتها الساحلية بالمقاطعة الواقعة في مؤخرتها , اضافة الى حركة الملاحة في المجاري المائية والنهرية الكبرى مهد السبيل امام حركة تبادل تجاري جبارة وكبرى ليس فقط مابين اقطار الامبراطورية الداخلية بل حتى مع عالم ماوراء الامبراطورية المتبربر والذي لم تقتصر فيه المبادلات على البضائع الاستهلاكية فقط ...
وهكذا فان القضية المحسوسة الكبرى التي اهتم بها الى حد بعيد المؤرخين اليوم كما همت المعاصرين لتلك الحركة الاقتصادية , تبلورت حول تشعب العلاقات التجارية وتشابك هذه العلاقة التجارية ,التي ضمت الاقطار الشاسعة الواقعة في شمال اوربا الغربية وشواطى الضفة الغربية للبحر المتوسك الى الوحد الاقتصادية التي اقتصرت في ما مضى على شواطى البحر المتوسط الشرقية وعالم الشرق الادني الهيلنستي فجاءت الفتوحات الرومانية وربطتها بقلب ايطاليا في العهد الجمهوري ثم راحت هذه الوحدة الاقتصادية تتسع في العهد الامبراطوري لتضم في نطاقها قطاعات ما وراء الدانوب والرين وجنوب اسكندينافيا وغرب روسيا وشمال اسكتلندة , وهكذا نرى سكان اسكندينافيا يتاجرون مع ايطاليا وجنوب بريطانيا يتاجر مع لبنان في الوقت الذي ذهب فيه التجار السوريون يجوبون جميع اطراف العالم الروماني الذي كان قبل كل شىء وحدة سياسية وعسكرية ولم يلبث ان اصبح وحدة تجارية واقتصادية ناشطة حية بفضل الروابط التي شدت دوانيه الى اقاصيه عبر البحر المتوسط
وهذا الازدهار التجاري توفرت له عوامل تقنية في غاية الملائمة , فمن مقومات هذا الازدهار هذه الامبراطورية المترامية الاطراف ذات العملة و الجهاز الاداري والنظام القانوني الموحد في جميع اقاليمها والغنية بالانتاج المتنوع والغلال المتعددة والمحاصيل الزراعية المختلفة والاساليب والمنتوجات الصناعية المتباينة , وكان السفر والتجوال في جميع اطرافها حرا لجميع رعاياها لا يحد من امكانياته الى ازدواجية اللغة : اليونانية في الشرق واللاتينية في الغرب , ومع ذالك لم تؤلف هذه الازدواجية عقبة استعصى حلها في وجه النشاط الاقتصادي, وانتقال المحاصيل الزراعية من ولاية الى اخرى حضى بالحرية نفسها لتنقل الافراد, باستثناء الحبوب المصرية التي لم يكن الاباطرة يسمحون بتصديرها لغير ايطاليا الى في ما ندر, وكانت هذه المبادلات تخضع بالطبع لرسوم وضرائب اختلفت في اقدراها ونسبها حسب طبيعة الحمولة واوزانها و وسائل نقلها و وجهة سيرها ومن بين هذه الرسوم الرسم الاقليمي portoria الذي يعتبر اول نوع من الضرائب الغير المباشرة التي ظهرت في التاريخ والذي كانت تفرضه الدولة الرومانية على البضائع التي تجتاز شبكة الطرق المركزية الكبرى كضريبة عن حق استغلال الطريق كما لو مرت البضائع في الطرق الالبية التي تفصل غاليا عن ايطاليا او طرق اسيا الصغرى التي تفصل سوريا عن اليونان وما يجد الاشارة اليه ان نسبة رسوم استغلال الطرق المركزية كانت اكثر ارتفاعا في الشرق منها في الغرب نظرا لارتفاع نسبة قيمة البضاعة المستورة والمصدرة التي تاتي وتذهب ايابا ياتجاه الشرق حيث بلغت تلك النسبة ما يساوي 5 بالمائة من قيمة البضاعة في حين انها قلما تجاوزت نسبة 2 بالمائة في الولايات الغربية , وقد كان لهذ الرسم نفس مفهوم الرسوم الجمركية في وقتنا الحالي حيث كان يفرض عند مداخيل وبوابات بعض المدن الكبرى قبل دخول هذه السلع الى تلك المدن او عند اجتياز حدود الليمس الروماني بالنسبة للبضائع القادمة من خارج الامبراطورية , وقد فرضت هذه الضربية التي اشتقت اسمها من اسم الميناء باللاتينية portus منذ بداية العهد الامبراطوري على السفن التجارية الراسية في الموانىء الكبرى كالاسكندرية و قرطاجة وروما ونابولي باستثناء عبارات شحن الحبوب التي كانت معفية من هذه الرسوم..
وهذا وقد انشائت الدولة شبكة من الطرق المركزية الممتازة وتعهدت بصيانتها والرعاية بها وتبرز اهمية هذه الطرق اذا قارنها بما كان سائد قبلها اذا كانت مجرد مسالك تعارف الناس منذ امد بعيد على الترحال اونقل بضاعتهم عبرها , وقد حقق مهندسوا الطرقات الرومان انجازات هندسية جبارة تعد بحق من معجزات الهندسة المدنية انذاك , اذ تمكنوا من تخطى النواتىء الطبيعية من جبال ووديان ومنحدرات وانهر صعبة الاجتيازات ومدو شبكة من طرق تتخلها مجموعة من الجسور والقناطر التي شقت عباب انهر الدانوب والراين ومن عجائب الطرقات الرومانية انذاك هو تجهزيها بما يعرف اليوم باشارات الطرق وباحجار قياس المسافة الكيلموترية او مايعرف بالاتينية ب Miliarium والتي كانت توضح اسماء المدن التي تقود اليها الطريق مع ذكر المسافة المتبقية من الحجر الى المدينة او اتجاه المدن و اسمائها بالنسبة للاشارة الطرق , والى هذا فقد بنيت جميع المدن الجديدة كتيمقاد وفقا لمخطط شبكة الطرق المتعامدة التي سهلت حركة النقل والتجارة وقد كانت هذه الاعمال الهندسية مثال للجرءاة فكل الاباطرة الذين تعاقبوا على الحكم ترك اثاره المعمارية البارزة التي تحدت الدهر ولا تزال ماثلة الى اليوم ,,,ولكن حذار ان نضخم اكثر مما يجب واقعا متحيزا لهذه الحضارة التي لا نزال نطائطىء الراس امامها , اذ ان وسائل استخدام الحصان والنقل لم تعرف نفس التطور والنجاحات التي عرفها فن الهندسة المدنية الرومانية في مجال بناء الطرق , فبيطرة حيوانات الجر بقيت عادة محدودة لم يشع استعمالها خارج مخيمات الجيش , وطريقة كدن الحصان الى العربة ظلت بدائية اذ استمروا في استعمال سيور يؤثر ضعطها على صدر الحصان وحركة تنفسه ,ولذا قلما زادت حمولة عربة يجرها جودان على 500 كلغ وهي كمية قليلة هينة تبهظها وترهقها تكاليف الرسوم والسفر , فالطرقات الامبراطورية التي لا تزال تبعث في النفس الدهشة والاعجاب لصمودها و انسيابها في صراط قويم غير مبالية بموانع الطبيعة , كانت تصلح لنقل البريد الاداري الامبراطوري cursus publicus و تنقلات المسافرين الذين لم يكونوا ليحملوا معهم اكثر من متاعهم وقبل كل ذالك لتحركات الجيوش اكثر مما صلحت او استغلت في تنشيط حركة التجارة والاقتصاد خصوصا في ذالك الشطر الشرقي من الامبراطورية ...
ولهذا راحت الحركة التجارية تعول بالاكثر على النقل البحري فقامات اساطيل وعمارات يقودها مجذفون تمخر المتوسط ومجاري الانهر ذهابا و ايابا حتى ما كان منها صعب المسالك كنهر الرون ونهر الاود , وقد لجاء المهندسون الرومان الذين عرفوا بجراتهم في مجالات التعمير والبناء الى حفر الترع والاقنية المائية لتقليل المسافة ومدة السفر عن طريق اختصار المسالك , ومن الاقنية القليلة التي عرفت عنهم وما تزال ظاهرة الي اليوم قناة تتعلق بمجرى الراين الاسفل ولا سيما قناة Fossas Drusianae او قناة دروسوس العسكرية و المعروفة اليوم باسم ايسيل IJssel التي كانت تربط الراين ببحيرة فليفو Flevo Lacus المعروفة ببحيرة Zuiderzee بهولندا اليوم , او القناة التي بداء بها قيصر واستمر نيرون في العمل عليها في مايعرف اليوم بقناة كورنثية او Dhioryga tis Korinthou والتي كانت تهدف لشق برزخ كورنثية وتفتح الطريق المباشر ما بين بحر ايجه والبحر الايوني لتفادي الدوران حول شبه جزيرة البيلوبينز جنوبا ..
لم يكن للوحدة السياسة في الدولة الرومانية في العهد الامبراطوري ان تكتمل ما لم يتحقق لها ادنى حد من وحدتها الاقتصادية والاجتماعية تشد بين اطراف هذه الوحدة .فالجمهورية ليس انها لم تفعل شيئا في سبيل تحقيق مثل هه الوحدة بل لم تهيى لها الظروف لظهور عفوي ,اذا ان جل همها انصرف لاشباع حاجات روما المباشرة بالاستغلال والاحتكار المباشر لخيرات وثروات البلاد المفتوحة وان توفر للايطاليين احيانا بغير رضى منها المنافع التي يتمتع بها المواطنون من سكان روما , دون ان تضمن لهم الوضع الحقوقي المساوي لما ينعم به المواطن الروماني في المدينة , اما الامر فقد تما على غير ذالك مع الامبراطورية تحت تاثير ادارة واعية مدركة لاغراضها ناشدة لاهدافها من جهة ومن جهة اخرى بفضل التطور والتغيرات الذي خضع له وضع الامبراطورية العام خلافا للعهد الجمهوري بعد ان عرفت ان تهيء له الاسباب اللازمة واهم هذه التغيرات كان استباب السلام الروماني Pax Romana وانتظام الادارة في الولايات ..وقد صحب هذه التغييرات انقطاع دابر الارتبكات الادارية وتوقف استغلال هذه الولايات المفرط لصالح اقلية ضئيلة من اصحاب الامتيازات , صحيح انه بقى شيء من هذه الامتيازات في النظام الجديد انحصرت في بعض المقاطعات و لفائدة فئة قليلة من الناس تميزت عن غيرها في هذه المناطق والطبقات الى ان الفارق الذي كان يميز وضع هؤلاء عن وضع اولئك لم يكن ليثير الحفائظ والضغينة في القلوب والنفوس من سكان الامبراطوية , بينما حرص الاباطرة على انتقاء اصحاب هذه الطبقات اقله فيما يتصل بالافراد بصورة اوسع وبشكل ارحب من سكان باقي الولايات و وفقا لقواعد واصول جديدة , وهكذا اطل على الدنيا في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي طراز حياة جديد شاع وعمم ولم يلبث ان رسخ في الارض , وكان من مظاهر هذا الوضع ومن نتائجه ايضا ان روما لم تتنازل و تشارك فيه على قدم المساواة وبقيت محافظة على بعض ما كانت تتمتع به من امتيازات مقارنتا برعايها , الى انها عولت الا يكون دورها فيه غير دور عاصمة تؤمن الانسجام بين اجزاء مقاطعتها وتجري بينها العدل والمساواة ,,,,,
______________________________
الامن الغذائي وهواجس الاباطرة
ان الشعور الذي ساد الجميع من سكان الامبراطورية خلال القرنين الاولين الميلادي هو ان الحياة الاقتصادية تميزت بالازدهار والانطلاق , وقد راح معاصرو هذا العهد يعزون الفضل هذا كله للجهاز الاداري للامبراطورية ولا سيما للاباطرة انفسهم وهم في ذالك يرددون ما تنفخ به ابواق الدعاية الرسمية للدولة .ومع هذا اننا لانستطيع ان نعزو فضل ذالك اليهم اي الاباطرة الى من ناحية فرعية باعتباره نجاحا او نتيجة لسياستهم الحربية والادارية التي ادت الى تنظيم الجهاز الاداري و النظام القضائي في الولايات وتوطيد السلام في ربوع الامبراطورية وهو بتالي ما انعكس و خلق حالة من الازدهار الاقتصادي هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الاباطرة انفسهم كثيرا ما احترزوا من تطبيق سياسة اقتصادية موجهة ولا سيما من وضع فلسفة اقتصادية تقوم على توجيه الدولة للاقتصاد ولعل خير ما كانوا يرجونه الا يتدخلوا في امور وموضوعات كثيرا ما اوعزتهم الحيلة في معالجتها وما كانوا ليرغموا على لتدخل بتاتا لولا اظطرارهم لمواجهة قضيتين عصيبتين هما تامين تموين روما بالقمح وتموين الجيش الروماني على الحدود ....
لقد كانت روما اذ ذاك مدينة ضخمة عملاقة من كبار ميتروبوليس العالم القديم لم تبلغ بعدها مدينتا هذه الضخامة الى غاية بداية الثورة الصناعية في اوربا وقد اختلف المؤرخون وتباينوا كثيرا فيما بينهم حول عدد سكانها وذالك لقلة المصادر الموثوقة التي يصح الاعتماد عليها فقط فرط بعض هؤلاء المؤرخون المعاصرون وراح يقارب سكان المدينة بمليوني نسمة بينما القول بمليون نسمة لم يكن بمبالغة او مستغرب , ومهما يكن من الامر , فهذه الجماهير المجمهرة التي تعمر بها العاصمة لم تكن لتنتج شيء كبيرا من عهد بعيد وقد اقتصر نشاط اليد العاملة فيها على بعض المصنوعات اليدوية لسد الحاجات المحلية , فالمدينة قبل كل شيء مستهلك اكول دون اي بديل او عوض وهي الى هذا مستهلك الف منذ عهد سحيق ان يعيش حياة رخيصة نظرا للتدابير التي كانت تتخذها الحكومة لتبقى اسعار القمح رخيصة ولتوزع القمح مجانا على المواطنين الفقراء والمعوزين او ما كان يعرف بقفة الاعانة sportula ولما كانت عملية توزيع الحبوب والقمح المجاني جزءًا من استراتيجية القيادة الرومانية للحفاظ على الهدوء بين سكان المدينة و المناطق الريفية المضطربة من خلال تزويدهم بما يسميه الشاعر الروماني جوفينال بسخرية "الخبز والسيرك panem et circenses " كان من المستحيل مجرد التفكير بقطع هذه التقاليد المرعية منذ القدم وضرب عرض الحائط بها لما في ذالك من تهديد للسلم والامن الاجتماعي من جهة ومن جهة اخرى باعتبار ان الامبراطور في نظر الجماهير هو الخليفة الشرعي للحزب الشعبي الديمقراطي populares وممثل التريبيون حامي الشعب ونصيره , فكان على الامبراطور والحالة هذه ان ينظم على احسن وجه مصلحتي التوريدات و مصلحة توزيع القمح Cura Annonae و cura alimentorum distribuendorum لتامين العيش لما لا يقل عن 200 الف نسمة او ما يزيد قليلا عن هذا العدد في عهد اغسطس من فقراء روما ومعدميها الموزعين على 45 دائرة من دوائرها , يتلقون على مدى ايام الشهر مجانا كمية القمح اللازمة لاعالتهم , اما الباقون فكان على دائرة التموين ورئيسها Praefectus alimentorum ان تسعى جاهدة لتامين حاجاتهم بصورة منتظمة وباسعار مقبولة , اما في اوقات الفاقة والمجاعات فكان الامبراطور يدفع من ماله الخاص لتجار القمح لتامين احتياجات للشعب كما حدث في عهد تيبريوس الذي حذر خلفائه انه اذا اهملت مصلحة توزيع القمح بالمجان فسيكون ذالك خراب الدولة المطلق .
توزيع الخبر بالمجان كما تظهر في احد جدريات مدينة بومبي
كل هذا وما اليه الى جانب هبات الاعياد والالعاب المعدة للترفيه عن الشعب , كالاعطيات congiaria التي توزع عينا ومقدارها 445 sestertius في عهد اغسطس و 300 sestertius في عهد تيبريوس وكاليغولا وهو الرقم المالوف ثم ارتفعت الكمية في القرن الثاني بعد اخضاع داسيا الغنية بمناجم الذهب بحيث تجاوزت 650 denarius في عهد ترجانوس وبلغت 1000 في عهد هدريانوس لتنزل الى 850 sestertius في عهد ماركوس اوريليوس واستقرت على 800 sestertius في عهد كومودوس , وهي مبالغ كانت توزع على المواطنين المتوسطي الدخل اثناء بعض الاعياد الذين لا يستفيدون من المساعدة الغذائية المجانية وهذا في ما يتعلق بالمساعدات المادية والعينية اما من حيت جهة الادارة الفنية لاستيراد وتنظيم توزيع هذه المساعدات فكان ذالك يعني انشاء مفوضتي التموين والتوريد cura alimentorum و Annonae و توفير وسائل النقل البحري وتجيهز ارصفة نهر التيبر وتجهيزيها بمخازن القمح الى جانب تهياءة وتوسيع مرفاء اوستيا مرفىء روما الرئيسي لاستقبال عبارات القمح الضخمة التي تجوب المتوسط من شرقه الى غربه ..
اما امر تموين الفيالق وتجهيزها بالعدد والعتاد والمؤونة فقد وضع الدوائر المعنية امام مسؤولية ثقيلة كان حلها مع ذالك ابسط واسهل من تموين الشعب فمجموع افراد الجيش المطلوب اعالتهم من العراق والقوقاز الى بريطانيا وافريقيا لم تتجاوز اعدادهم 300 الف جندي وكانت اقل من هذه الجماهير الشعبية التي يجب مساعدتها في روما ثم ان هذا الجيش لم يكن مجتمعا او محتشدا كهذه الجماهير المتراصة في روما والتي تعجز اخصب السهول المجاورة عن اشباعها بل كان موزعا على الحدود في قواعد ثابتة تحمي الاراضي والمزارع التي كانت تستغل في المؤخرة وكان يكفي لتامين حاجته من الطعام بان يحصل من الولايات الغنية القريبة له فائضا كافيا من محصول الارض او موارد غذائية اخرى وان يؤمن نقلها بحيث تصل الى المستهليكن بسلام , اما المشكلة الاولى فكان حلها اسهل بواسطة الاموال التي استخدمت لشراء فائض المحصول لتموين الجيش , اما المشكلة الثانية فهي الادق والاصعب سواء للجيش او لروما نفسها و صعوبة الاولى نظرا لوقوع هذه الحدود والقواعد العسكرية في مناءى عن البحر المتوسط وموائنه وهذا ما دعا لشق الطرقات البرية عندما يتعذر النقل النهري, اما بالنسبة لروما فقد كانت الممرات الملاحية التي تربط روما بمراكز إمدادات الحبوب (مصر وشمال إفريقيا وصقلية وربما أماكن أخرى) ذات أهمية استراتيجية. كل من يسيطر على إمدادات الحبوب كان له مقاييس هامة للسيطرة على مدينة روما.
حيث كان توفير الحبوب إلى روما مهمة شحن رئيسية وإدارية للرومان.و لم يكن من الممكن توفير احتياجات روما عن طريق النقل البري. كون "شحن الحبوب من أحد أطراف البحر الأبيض المتوسط إلى البحر" أرخص من "حمله عن طريق البر ، وهكذا كان هناك أسطول كبير من سفن الحبوب مطلوبة لجلب الحبوب من صقلية وسردينيا القريبة نسبيا ، و شمال أفريقيا البعيدة ، ومصر الأكثر بعدا. في مسافات الخطوط المستقيمة (والسفن الشراعية لا تسافر عادة في خطوط مستقيمة) ، كانت المسافات من صقلية إلى روما أكثر من 500 كيلومتر (310 ميل) ،و من قرطاج في شمال أفريقيا أكثر من 600 كيلومتر (370 ميل) ، ومن مصر المزيد من 2000 كيلومتر (1200 ميل). وقد تكون أوقات الإبحار من موانئ أوستيا (بالقرب من روما) وبوتولي Puteoli (بالقرب من نابولي) إلى الإسكندرية في مصر قصيرة لمدة 14 يومًا.الى إن العودة إلى روما تستغرق وقتًا أطول لأن الرياح كانت عادة سلبية وكان على السفن أن تعانق السواحل والسفر بطريقة مستديرة "كانت الرحلة ... من الإسكندرية إلى روما معركة مستمرة ضد رياح كريهة." وقدر ليونيل كاسون أن متوسط الوقت للرحلة كان 70 يومًا تقريبًا بحيث كانت الحبوب تعابء في أكياس خاصة، بدلاً من حملها في حاويات السفن.حفاظا على جودتها من رطوبة البحر
وبالنظر إلى الوقت اللازم لتحميل وتفريغ سفن الحبوب يدوياً ، فمن المرجح أن تكون السفن التي تعبر مسار مصر إلى روما قد أكملت رحلة واحدة في السنة فقط. ويمكن القيام بالعديد من الرحلات المستديرة سنوياً من شمال أفريقيا أو صقلية.والى هذا يعتقد ان اسبانيا كانت أيضا مصدرا هاما لزيت الزيتون ، وربما الحبوب. وذا كان موسم الحصاد للحبوب في مصر القديمة من أبريل إلى أوائل يونيو. ووقت بدأ فيضان النيل السنوي في شهر يونيو ، فبالتالي كان من الضروري الانتهاء من الحصاد قبل أن تغطي مياه النهر الأرض.و يبدو أن الحبوب في مصر كانت تحصل عليها روما كضريبة على المزارعين. حيث تم نقل الحبوب في الغالب من خلال المراكب على مختلف روافد نهر النيل إلى بحيرة Mareotis المتاخمة للجزء الجنوبي من مدينة الإسكندرية. هناك يتم تفتيشها ومعاينة الجودة ، وعندما يتم قبولها ، تنقل إلى ميناء الإسكندرية العظيم ، حيث تم تحميلها على متن السفن الى روما. اما الحبوب من شمال افريقيا. فقد وجد علماء الآثار في شمال أفريقيا تسعة وعشرون ميناءًا (غير مصر) ، يُحتمَل أن يكونوا مصدرًا حبوبًا إلى روما ، تراوح مكانها من ليبيا إلى المغرب وربما كان اكبرها قرطاج. وبالنظر إلى عدم وجود أنهار صالحة للملاحة في المنطقة ، تعين نقل الحبوب إلى هذه الموانئ عن طريق البر ، مما يوحي بأنه ، بسبب تكلفة النقل البري ، زرعت الحبوب على مقربة من الموانئ. و من المحتمل أنه تم نقل الحبوب إلى الموانئ في عربات بأربعة عجلات مرسومة بواسطة أربعة ثيران ، كل عربة تحمل 350 كيلوغراما (770 رطل) إلى 500 كيلوغرام (1100 رطل) و قد تكون الحبوب من Cyraenica (ليبيا) القديمة مهمة لأن الحصاد المبكر يمكن أن يمد روما قبل أن يتم حصاد مناطق زراعة الحبوب الأخرى.
وخلال العهد الجمهوري ، تم شحن الحبوب إلى مدينة روما من صقلية وسردينيا و خلال القرن الأول قبل الميلاد ، كانت المصادر الرئيسية الثلاثة للقمح سردينيا وصقلية وشمال أفريقيا ، أي المنطقة التي كانت مركزًا في مدينة قرطاج القديمة ، تونس الحالية. ومع انضمام مصر إلى الإمبراطورية الرومانية عهد الإمبراطور أغسطس ، أصبحت مصر المصدر الرئيسي لتوريد الحبوب لروما ،وقد كان المؤرخ جوزيفوس يدعي أن أفريقيا كانت تغذي روما لمدة ثمانية أشهر من السنة ومصر أربعة فقط. على الرغم من أن هذا التصريح قد يتجاهل الحبوب من صقلية ، ويبالغ في تقدير أهمية أفريقيا ، إلا أن هناك القليل من الشك بين المؤرخين بأن أفريقيا ومصر كانت أهم مصادر الحبوب لروما الى جانب قمح البحر الاسود القادم من مملكة البوسفور العميلة في ما يعرف اليوم بالقرم , و في الفترة الجمهورية وللمساعدة في ضمان إمدادات الحبوب لروما ، ، قام Gaius Gracchus بتوطين 6000 مستعمر قرب قرطاج في القرن الأول قبل الميلاد ضمن ما عرف بمشروع قانون سمبورنيا Lex Sempronia ، ومنحهم حوالي 25 هكتارًا (62 فدانًا) لزراعة الحبوب التي يعاد تصديرها لروما كما نصت حزمة قوانين Lex Sempronia المثيرة للجدل حينها على ان يتم توزيع القمح على المواطنين الرومان بالمجان منعا لاستخدام سلاح القمح في الانتخابات القنصلية كوسيلة لتقرب من المواطنين وكسب تعاطفهم
التجارة الداخلية ومقومتها :
وهذه المسؤوليات الحكومية تقتضي للنهوض بها المال والاخصائين فاذا ما نظرنا اليها بمنظار العالم الروماني والمستوى الحضاري المادي الذي حققته بعض اجزاء هذا العالم فلم تكن هذه المهام والمسؤوليات التي واجهها فوق طاقته اذا ما توفرت له ادارة رشيدة حكيمة فالمال الذي كان لا بد منه لتحقيق هذا كله كانت توفره موارد البلاد الاقتصادية ولم يكن ليكلف عبئا ثقيلا عليها
فابسثتاء مصر التي بقيت خاضعة لنظام خاص من الاستغلال والاستثمار لا رحمة فيه للفلاح المصري كان الوضع القائم مؤاتيا لحياة اقتصادية ناعمة تعم جميع اطراف الامبراطورية لا سيما والاستقرار السياسي الذي تنعم به البلاد كان يشجع على القيام بهذا المجهود فروما والجيش وشعوب الامبراطورية الذي فاقوا الخمسين مليون نسمى الفا في الامبراطورية سوقا للاستهلاك لا حدود لها تقريبا اذا كان من اتساع هذه الحاجات وتنوعها ما يتطلب المزيد من انتاج محاصيل الارض فالي جانب القمح الذي كان يؤلف اساس الغذاء يجب ان نضيف محاصيل غذائية اخرى متنوعة يتطلبها الكثيرون من الزبائن والمستهلكين ومقادير هائلة من المنسوجات والمصنوعات التي يمكن نقلها على طريق القائمة في جميع اطراف الامبراطورية
وقد كانت روما لوحدها قطب جذب ومركز ثقل هائل لكل ما يمكن ان يبلغ في طريقه الى موانىء البحر المتوسط , حتى ما كان منها من الكماليات الغالية الثمن لوجود اصحاب ثروات هائلة طائلة في احيائها وصروحها , اما تمركز الفيالق ضمن قواعد ثابتة على اطراف حدود الامبراطورية وحدودها المتاخمة لشعوب البرابرة قد بعث في هذا الاقطار المتاخرة في تطورها عن ركب الحضارة , ونتيجة حتمية لاحتكاكهم بالعالم الروماني نشاطا اقتصاديا عارما لم تعرفه من قبل كان من بعض نتائجه الخيرة احياء الارض و اعمارها واستقرار السكان في قرى سرعان ماتحولت الى مدن على حدود الامبراطورية وانشاء المصانع والمعامل في ارجائها , ثم ان شبكة الاتصال المنتظمة داخل الامبراطورية والتي تربط مقاطعتها الساحلية بالمقاطعة الواقعة في مؤخرتها , اضافة الى حركة الملاحة في المجاري المائية والنهرية الكبرى مهد السبيل امام حركة تبادل تجاري جبارة وكبرى ليس فقط مابين اقطار الامبراطورية الداخلية بل حتى مع عالم ماوراء الامبراطورية المتبربر والذي لم تقتصر فيه المبادلات على البضائع الاستهلاكية فقط ...
وهكذا فان القضية المحسوسة الكبرى التي اهتم بها الى حد بعيد المؤرخين اليوم كما همت المعاصرين لتلك الحركة الاقتصادية , تبلورت حول تشعب العلاقات التجارية وتشابك هذه العلاقة التجارية ,التي ضمت الاقطار الشاسعة الواقعة في شمال اوربا الغربية وشواطى الضفة الغربية للبحر المتوسك الى الوحد الاقتصادية التي اقتصرت في ما مضى على شواطى البحر المتوسط الشرقية وعالم الشرق الادني الهيلنستي فجاءت الفتوحات الرومانية وربطتها بقلب ايطاليا في العهد الجمهوري ثم راحت هذه الوحدة الاقتصادية تتسع في العهد الامبراطوري لتضم في نطاقها قطاعات ما وراء الدانوب والرين وجنوب اسكندينافيا وغرب روسيا وشمال اسكتلندة , وهكذا نرى سكان اسكندينافيا يتاجرون مع ايطاليا وجنوب بريطانيا يتاجر مع لبنان في الوقت الذي ذهب فيه التجار السوريون يجوبون جميع اطراف العالم الروماني الذي كان قبل كل شىء وحدة سياسية وعسكرية ولم يلبث ان اصبح وحدة تجارية واقتصادية ناشطة حية بفضل الروابط التي شدت دوانيه الى اقاصيه عبر البحر المتوسط
وهذا الازدهار التجاري توفرت له عوامل تقنية في غاية الملائمة , فمن مقومات هذا الازدهار هذه الامبراطورية المترامية الاطراف ذات العملة و الجهاز الاداري والنظام القانوني الموحد في جميع اقاليمها والغنية بالانتاج المتنوع والغلال المتعددة والمحاصيل الزراعية المختلفة والاساليب والمنتوجات الصناعية المتباينة , وكان السفر والتجوال في جميع اطرافها حرا لجميع رعاياها لا يحد من امكانياته الى ازدواجية اللغة : اليونانية في الشرق واللاتينية في الغرب , ومع ذالك لم تؤلف هذه الازدواجية عقبة استعصى حلها في وجه النشاط الاقتصادي, وانتقال المحاصيل الزراعية من ولاية الى اخرى حضى بالحرية نفسها لتنقل الافراد, باستثناء الحبوب المصرية التي لم يكن الاباطرة يسمحون بتصديرها لغير ايطاليا الى في ما ندر, وكانت هذه المبادلات تخضع بالطبع لرسوم وضرائب اختلفت في اقدراها ونسبها حسب طبيعة الحمولة واوزانها و وسائل نقلها و وجهة سيرها ومن بين هذه الرسوم الرسم الاقليمي portoria الذي يعتبر اول نوع من الضرائب الغير المباشرة التي ظهرت في التاريخ والذي كانت تفرضه الدولة الرومانية على البضائع التي تجتاز شبكة الطرق المركزية الكبرى كضريبة عن حق استغلال الطريق كما لو مرت البضائع في الطرق الالبية التي تفصل غاليا عن ايطاليا او طرق اسيا الصغرى التي تفصل سوريا عن اليونان وما يجد الاشارة اليه ان نسبة رسوم استغلال الطرق المركزية كانت اكثر ارتفاعا في الشرق منها في الغرب نظرا لارتفاع نسبة قيمة البضاعة المستورة والمصدرة التي تاتي وتذهب ايابا ياتجاه الشرق حيث بلغت تلك النسبة ما يساوي 5 بالمائة من قيمة البضاعة في حين انها قلما تجاوزت نسبة 2 بالمائة في الولايات الغربية , وقد كان لهذ الرسم نفس مفهوم الرسوم الجمركية في وقتنا الحالي حيث كان يفرض عند مداخيل وبوابات بعض المدن الكبرى قبل دخول هذه السلع الى تلك المدن او عند اجتياز حدود الليمس الروماني بالنسبة للبضائع القادمة من خارج الامبراطورية , وقد فرضت هذه الضربية التي اشتقت اسمها من اسم الميناء باللاتينية portus منذ بداية العهد الامبراطوري على السفن التجارية الراسية في الموانىء الكبرى كالاسكندرية و قرطاجة وروما ونابولي باستثناء عبارات شحن الحبوب التي كانت معفية من هذه الرسوم..
وهذا وقد انشائت الدولة شبكة من الطرق المركزية الممتازة وتعهدت بصيانتها والرعاية بها وتبرز اهمية هذه الطرق اذا قارنها بما كان سائد قبلها اذا كانت مجرد مسالك تعارف الناس منذ امد بعيد على الترحال اونقل بضاعتهم عبرها , وقد حقق مهندسوا الطرقات الرومان انجازات هندسية جبارة تعد بحق من معجزات الهندسة المدنية انذاك , اذ تمكنوا من تخطى النواتىء الطبيعية من جبال ووديان ومنحدرات وانهر صعبة الاجتيازات ومدو شبكة من طرق تتخلها مجموعة من الجسور والقناطر التي شقت عباب انهر الدانوب والراين ومن عجائب الطرقات الرومانية انذاك هو تجهزيها بما يعرف اليوم باشارات الطرق وباحجار قياس المسافة الكيلموترية او مايعرف بالاتينية ب Miliarium والتي كانت توضح اسماء المدن التي تقود اليها الطريق مع ذكر المسافة المتبقية من الحجر الى المدينة او اتجاه المدن و اسمائها بالنسبة للاشارة الطرق , والى هذا فقد بنيت جميع المدن الجديدة كتيمقاد وفقا لمخطط شبكة الطرق المتعامدة التي سهلت حركة النقل والتجارة وقد كانت هذه الاعمال الهندسية مثال للجرءاة فكل الاباطرة الذين تعاقبوا على الحكم ترك اثاره المعمارية البارزة التي تحدت الدهر ولا تزال ماثلة الى اليوم ,,,ولكن حذار ان نضخم اكثر مما يجب واقعا متحيزا لهذه الحضارة التي لا نزال نطائطىء الراس امامها , اذ ان وسائل استخدام الحصان والنقل لم تعرف نفس التطور والنجاحات التي عرفها فن الهندسة المدنية الرومانية في مجال بناء الطرق , فبيطرة حيوانات الجر بقيت عادة محدودة لم يشع استعمالها خارج مخيمات الجيش , وطريقة كدن الحصان الى العربة ظلت بدائية اذ استمروا في استعمال سيور يؤثر ضعطها على صدر الحصان وحركة تنفسه ,ولذا قلما زادت حمولة عربة يجرها جودان على 500 كلغ وهي كمية قليلة هينة تبهظها وترهقها تكاليف الرسوم والسفر , فالطرقات الامبراطورية التي لا تزال تبعث في النفس الدهشة والاعجاب لصمودها و انسيابها في صراط قويم غير مبالية بموانع الطبيعة , كانت تصلح لنقل البريد الاداري الامبراطوري cursus publicus و تنقلات المسافرين الذين لم يكونوا ليحملوا معهم اكثر من متاعهم وقبل كل ذالك لتحركات الجيوش اكثر مما صلحت او استغلت في تنشيط حركة التجارة والاقتصاد خصوصا في ذالك الشطر الشرقي من الامبراطورية ...
ولهذا راحت الحركة التجارية تعول بالاكثر على النقل البحري فقامات اساطيل وعمارات يقودها مجذفون تمخر المتوسط ومجاري الانهر ذهابا و ايابا حتى ما كان منها صعب المسالك كنهر الرون ونهر الاود , وقد لجاء المهندسون الرومان الذين عرفوا بجراتهم في مجالات التعمير والبناء الى حفر الترع والاقنية المائية لتقليل المسافة ومدة السفر عن طريق اختصار المسالك , ومن الاقنية القليلة التي عرفت عنهم وما تزال ظاهرة الي اليوم قناة تتعلق بمجرى الراين الاسفل ولا سيما قناة Fossas Drusianae او قناة دروسوس العسكرية و المعروفة اليوم باسم ايسيل IJssel التي كانت تربط الراين ببحيرة فليفو Flevo Lacus المعروفة ببحيرة Zuiderzee بهولندا اليوم , او القناة التي بداء بها قيصر واستمر نيرون في العمل عليها في مايعرف اليوم بقناة كورنثية او Dhioryga tis Korinthou والتي كانت تهدف لشق برزخ كورنثية وتفتح الطريق المباشر ما بين بحر ايجه والبحر الايوني لتفادي الدوران حول شبه جزيرة البيلوبينز جنوبا ..
التعديل الأخير: